التفاسير

< >
عرض

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٢
وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
١٢٣
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٢٦
لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٧
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٢٩
يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
١٣٠
-الأنعام

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ } مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل. وقرأ نافع ويعقوب { مَيْتًا } على الأصل. { كَمَن مَّثَلُهُ } صفته وهو مبتدأ خبره. { فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } وقوله: { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال. { كَذٰلِكَ } كما زين للمؤمنين إيمانهم. { زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل.

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، و { جَعَلْنَا } بمعنى صيرنا ومفعولاه { أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا } على تقديم المفعول الثاني، أو في كل قرية { أَكَـٰبِرَ } و { مُجْرِمِيهَا } بدل ويجوز أن يكون مضافاً إليه إن فسر الجعل بالتمكين، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرىء «أكبر مجرميها»، وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأن وباله يحيق بهم. { وَمَا يَشْعُرُونَ } ذلك.

{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } يعني كفار قريش لما روي: أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { رِسَالَتَهُ } { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ } ذل وحقارة بعد كبرهم. { عَندَ ٱللَّهِ } يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله. { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم.

{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان. { يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ } فيتسع له وينفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه، وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه فقال "نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال: نعم الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله" . { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً } بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإِيمان. وقرأ ابن كثير { ضَيّقاً } بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حرجاً بالكسر أي شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً بالمصدر. { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء } شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، ونبه به على أن الإِيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود. وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه، وأصل يصعد يتصعد وقد قرىء به وقرأ ابن كثير { يَصْعَدُ } وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد. { كَذٰلِكَ } أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق. { يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } يجعل العذاب أو الخذلان عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.

{ وَهَـٰذَا } إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن، أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان. { صِرٰطُ رَبّكَ } الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته. { مُّسْتَقِيماً }لا عوج فيه، أو عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة كقوله { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدّقًا }، أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة. { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم.

{ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ } دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام. { عِندَ رَبّهِمْ } في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره. { وَهُوَ وَلِيُّهُم } مواليهم أو ناصرهم. { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم.

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } نصب باضمار اذكر أو نقول، والضمير لمن يحشر من الثقلين. وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب { يَحْشُرُهُمْ } بالياء. { كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } يعني الشياطين. { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ } أي من إغوائهم وإضلالهم، أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود. { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنْسِ } الذين أطاعوهم. { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، والجن بالإِنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم. وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم. { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم. { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } منزلكم أو ذات مثواكم. { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدراً، ومعنى الإضافة إن جعل مكاناً { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } قبل الدخول كأنه قيل: النار مَثْوَاكُمْ أبداً إلا ما أمهلكم. { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في أفعاله. { عَلِيمٌ } بأعمال الثقلين وأحوالهم.

{ وَكَذٰلِكَ نُوَلّى بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضاً } نكل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضهم يتولى بعضاً فيغويهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا. { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمعاصي.

{ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ } الرسل من الإِنس خاصة، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره { { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم. وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى: { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [الأحقاف: 29] { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } يعني يوم القيامة. { قَالُواْ } جواباً. { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب. { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسهم أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰفِرِينَ } ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم.