التفاسير

< >
عرض

وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ
١٥٥
وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
١٥٦
ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٥٧
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٨
وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٥٩
وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١٦٠
-الأعراف

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه { سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَـٰتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال: ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال: إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجداً، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا: { { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55] فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة، أو رجفة الجبل فصعقوا منها. { قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـٰىَ } تمنى هلاكهم وهلاكه، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر، أو عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك. { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاء مِنَّا } من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، وكان ذلك قاله بعضهم. وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم. { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية، أو أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به. { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل. { وَتَهْدِى مَن تَشَاء } هداه فيقوى بها إيمانه. { أَنتَ وَلِيُّنَا } القائم بأمرنا. { فَٱغْفِرْ لَنَا } بمغفرة ما قارفنا. { وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَـٰفِرِينَ } تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.

{ وَٱكْتُبْ لَنَا فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } حسن معيشة وتوفيق طاعة. { وَفِي ٱلاْخِرَةِ } الجنة. { إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ } تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع. وقرىء بالكسر من هاده يهيده إذا أماله، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك، ويجوز أن يكون المضموم أيضاً مبنياً للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض. { قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } تعذيبه. { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره. { فَسَأَكْتُبُهَا } فسأثبتها في الآخرة، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل. { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الكفر والمعاصي. { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ } خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم. { وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا يُؤْمِنُونَ } فلا يكفرون بشيء منها.

{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ } مبتدأ خبره يأمرهم، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى ونبياً بالإِضافة إلى العباد. { ٱلأُمّىّ } الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. { ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ } اسماً وصفة. { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ } مما حرم عليهم كالشحوم. { وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰـئِثَ } كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة. { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله. وقرأ ابن عامر «آصارهم». { فَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ } وعظموه بالتقوية. وقرىء بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير. { وَنَصَرُوهُ } لي. { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ } أي مع نبوته يعني القرآن، وإنما سماه نوراً لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها، ويجوز أن يكون معه متعلقاً باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة. { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالرحمة الأبدية، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم.

{ قُلْ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } الخطاب عام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين، وسائر الرسل إلى أقوامهم. { جَمِيعاً } حال من إليكم. { ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } وهو على الوجوه. الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإِله لا غيره وفي: { يُحْيِي وَيُمِيْتُ } مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية. { فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِي الأُمِّي الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ } ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وقرىء «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن، أو عيسى تعريضًا لليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له. { وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.

{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى } يعنى من بني إسرائيل. { أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ } يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق. { وَبِهِ } بالحق. { يَعْدِلُونَ } بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإِيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. وقيل مؤمنو أهل الكتاب. وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فآمنوا به.

{ وَقَطَّعْنَـٰهُمُ } وصيرناهم قطعاً متميزاً بعضهم عن بعض. { ٱثْنَتَىْ عَشْرَةَ } مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير، أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة. { أَسْبَاطًا } بدل منه ولذلك جمع، أو تمييز له على أن كل واحد من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل: اثنتي عشرة قبيلة. وقرىء بكسر الشين وإسكانها. { أُمَمًا } على الأول بدل بعد بدل، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط. { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى إِذِ ٱسْتَسْقَـٰهُ قَوْمُهُ } في التيه. { أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ } أي فضرب فانبجست وحذفه للإِيماء على أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته { مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } كل سبط. { مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَـٰمَ } ليقيهم حر الشمس. { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ } أي وقلنا لهم كلوا. { مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } سبق تفسيره في سورة «البقرة».