التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً
٤
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
٧
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
٨
-الإنسان

انوار التنزيل واسرار التأويل

مكية وآيها إِحدى وثلاثون

آية بسم الله الرحمن الرحيم

{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ } استفهام تقرير وتقريب ولذلك فسر بقد وأصله أهل كقوله:

أهل رَأَوْنَا بِسَفْحِ القَاعِ ذِي الأَكم

{ حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ } طائفة محدودة من الزمان الممتد الغير المحدود. { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإِنسانية كالعنصر والنطفة، والجملة حال من { ٱلإِنسَـٰنَ } أو وصف لـ { حِينٍ } بحذف الراجع والمراد بالإِنسان الجنس لقوله:

{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ } أو آدم بين أولاً خلقه ثم ذكر خلقه بنيه. { أَمْشَاجٍ } أخلاط جمع مشج أو مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته، وجمع النطفة به لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما مختلف الأجزاء في الرقة والقوام والخواص، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو. وقيل مفرد كأعشار وأكباش. وقيل ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا اخضرا، أو أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. { نَّبْتَلِيهِ } في موضع الحال أي مبتلين له بمعنى مريدين اختباره أو ناقلين له من حال إلى حال فاستعير له الابتلاء. { فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب عن الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على الفعل المقيد به ورتب عليه قوله:

{ إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } حالان من الهاء، و { أَمَّا } للتفصيل أو التقسيم أي { هَدَيْنَـٰهُ } في حاليه جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضهم { شَـٰكِراً } بالاهتداء والأخذ فيه، وبعضهم كفور بالإِعراض عنه، أو من { ٱلسَّبِيلِ } ووصفه بالشكر والكفر مجاز. وقرىء { أَمَّا } بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافراً ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل، وإشعاراً بأن الإِنسان لا يخلو عن كفران غالباً وإنما المؤاخذ به التوغل فيه.

{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَـٰسِلَ } بها يقادون. { وَأَغْلَـٰلاً } بها يقيدون. { وَسَعِيراً } بها يحرقون، وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم لأن الإِنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر «سلاسلا» للمناسبة.

{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } جمع بر كأرباب أو بار كأشهاد. { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } من خمر وهي في الأصل القدح تكون فيه. { كَانَ مِزَاجُهَا } ما يمزج بها. { كَـٰفُوراً } لبرده وعذوبته وطيب عرفه وقيل اسم ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه. وقيل يخلق فيها كيفيات الكافور فتكون كالممزوجة به.

{ عَيْناً } بدل من { كَـٰفُوراً } إن جعل اسم ماء أو من محل { مِن كَأْسٍ } على تقدير مضاف، أي ماء عين أو خمرها أو نصب على الاختصاص أو بفعل يفسره ما بعدها. { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أي ملتذاً بها أو ممزوجاً بها، وقيل الباء مزيدة أو بمعنى من لأن الشرب مبتدأ منها كما هو. { يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً } يجرونها حيث شاءوا إجراء سهلاً.

{ يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } استئناف ببيان ما رزقوه لأجله كأنه سئل عنه فأجيب بذلك، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوَجَبه على نفسه لله تعالى كان أوفى بما أوجبه الله تعالى عليه. { وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ } شدائده. { مُسْتَطِيراً } فاشياً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر، وهو أبلغ من طار، وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.

{ وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ } حب الله تعالى أو الطعام أو الإِطعام. { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } يعني أسراء الكفار فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول "أحسن إليه" أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون، وفي الحديث "غريمك أسير فأحسن إلى أسيرك" .