التفاسير

< >
عرض

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَـٰتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْمُجْرِمُونَ
١٧
-يونس

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إِجراماً { مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء، فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً، فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء، فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسَجاح والأسود العَنْسي.

قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس، فكنت فيمن انجـفل، فلما رأيته، عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر، قال لرسول الله فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال: "الله" قال: ومن نصب هذه الجبال؟ قال: "الله" قال: ومن سطح هذه الأرض؟ قال: "الله" قال: فبالذي رفع السماء، ونصب هذه الجبال، وسطح هذه الأرض، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: "اللهم نعم" ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا، وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. وقال حسان بن ثابت:

لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مُبَيِّنَةٌكانَتْ بَديهَتُهُ تأتيكَ بالخَبَرِ

وأما مسيلمة، فمن شاهده من ذوي البصائر، علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست فصيحة، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة، وكم من فرق بين قوله تعالى: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة: 255] إِلى آخرها. وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى، إِذ أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. وقوله خلده الله في نار جهنم، وقد فعل: الفيل وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وقوله أبعده الله عن رحمته: والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، واللاقمات لقماً، إِهالة وسمناً، إِن قريشاً قوم يعتدون، إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء، ولهذا أرغم الله أنفَه، وشرب يوم حديقة الموت حتفَه، ومزق شملَه. ولعنه صحبُه وأهلُه. وقدموا على الصديق تائبين، وجاؤوا في دين الله راغبين، فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرؤوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة لعنه الله، فسألوه أن يعفيهم من ذلك، فأبى عليهم إلا أن يقرؤوا شيئاً منه؛ ليسمعه من لم يسمعه من الناس، فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم، فقرؤوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه، فلما فرغوا، قال لهم الصديق رضي الله عنه: ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إِلَ.

وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة، وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم؟ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدة، فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة، فقال: وما هي؟ فقال: { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر:1-2] إِلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وأنا قد أنزل عليَّ مثله، فقال: وما هو؟ فقال: يا وَبْر يا وبر، إِنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إِنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا؟ ولهذا قال تعالى: { { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 93] وقال في هذه الآية الكريمة: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَـٰتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْمُجْرِمُونَ } وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، وقامت عليه الحجج، لا أحد أظلم منه؛ كما جاء في الحديث: "أعتى الناس على الله رجل قتل نبياً، أو قتله نبي" .