التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
١
إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ
٣
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
-يوسف

تفسير القرآن العظيم

أما الكلام على الحروف المقطعة، فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله: { تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: هذه آيات الكتاب، وهو القرآن المبين، أي: الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة، ويفسرها ويبينها { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدىء إنزاله في أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه، ولهذا قال تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، حدثنا حكام الرازي عن أيوب، عن عمرو، هو ابن قيس الملائي، عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فنزلت: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ }، ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلاً. وقال أيضاً: حدثنا محمد بن سعيد القطان، حدثنا عمرو بن محمد، أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. قال: فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يارسول الله لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عز وجل: { الۤر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } إلى قوله: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ثم تلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنزل الله عز وجل: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [الزمر: 23] الآية، وذكر الحديث، ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به، وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي، عن عون بن عبد الله قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلَّة فقالوا: يا رسول الله حدثنا، فأنزل الله { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } ثم ملوا ملة، أخرى، فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون: القصص، فأنزل الله عز وجل: { الۤر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } الآية، فأرادوا الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.

ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب، ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، أنبأنا هشيم، أنبأنا مجالد عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغضب وقال: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق، فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني" . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً. قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى، ثم اتبعتموه وتركتموني، لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين"

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير، حدثنا علي بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالساً عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس، مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم، فضربه بقناة معه، قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس، فجلس، فقرأ عليه { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ الۤر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } - إلى قوله - { لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } فقرأها عليه ثلاثاً، وضربه ثلاثاً، فقال له الرجل: ما لي ياأمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال: مرني بأمرك أتبعه، قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته، أو أقرأته أحداً من الناس، لأنهكنك عقوبة، ثم قال له: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا في يدك يا عمر؟" قال: قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم؟ السلاح السلاح، فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهَّوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون" قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصراً من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي، وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري: لا يصح حديثه، قلت: وقد روي له شاهد من وجه آخر، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثني عمرو بن الحارث، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي، حدثنا سليم ابن عامر: أن جبير بن نفير حدثهم: أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة، فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة، وإن نهانا عنها رفضناها، فلما قدما عليه، قالا: إنا بأرض أهل الكتاب، وإنا نسمع منهم كلاماً تقشعر منه جلودنا، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال: لعلكما كتبتما منه شيئاً؟ فقالا: لا، قال: سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر، فوجدت يهودياً يقول قولاً أعجبني، فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال: نعم، فأتيت بأديم، فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرُع، فلما رجعت قلت: يا نبي الله وأخبرته. قال: "ائتني به" فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب، فلما أتيت به قال: "اجلس اقرأ علي" فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يتلون، فتحيرت من الفَرَق، فما استطعت أن أجيز منه حرفاً، فلما رأى الذي بي، رفعه، ثم جعل يتبعه رسماً رسماً، فيمحوه بريقه، وهو يقول: "لا تتبعوا هؤلاء؛ فإنهم قد هوكوا وتهوكوا" حتى محا آخره حرفاً حرفاً. قال عمر رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئاً، جعلتكما نكالاً لهذه الأمة، قالا: والله ما نكتب منه شيئاً أبداً، فخرجا بصلاصفتهما، فحفرا لها، فلم يألوا أن يعمقا، ودفناها، فكان آخر العهد منها، وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي عن عبد الله ابن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه، وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه، والله أعلم.

قوله تعالى: { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ }.

يقول تعالى: اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه، وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به، وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد، أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟" قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" ثم قال: تابعه أبو أسامة عن عبيد الله.

وقال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام: أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلاً سواه، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وذلك حين رفع أبويه على العرش، وهو سريره، وإخوته بين يديه { { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰىۤ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا } [يوسف: 100] وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكباً، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن سعيد الكندي، حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي، فقال له: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له، ما أسماؤها؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبريل عليه السلام، فأخبره بأسمائها، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: "هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟" فقال: نعم. قال: "جريان، والطارق، والذيال، وذو الكنفات، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء، والنور" فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.

ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن ظهير. وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما، وابن أبي حاتم في تفسيره، أما أبو يعلى، فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما رآها يوسف، قصها على أبيه يعقوب، فقال له أبوه: هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد، - قال - والشمس أبوه، والقمر أمّه" تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري، وقد ضعفه الأئمة، وتركه الأكثرون، وقال الجوزجاني: ساقط، وهو صاحب حديث حُسْن يوسف، ثم ذكر الحديث المروي عن جابر: أن يهودياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكواكب التي رآها يوسف، ما أسماؤها؟ وأنه أجابه، ثم قال: تفرد به الحكم بن ظهير، وقد ضعفه الأربعة.