التفاسير

< >
عرض

سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
١١
-الرعد

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه، لا يخفى عليه شيء؛ كقوله: { { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7]، وقال: { { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النمل: 25]، وقالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1] وقوله: { { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيْلِ } [الرعد: 10] أي: مختف في قعر بيته في ظلام الليل، { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } أي: ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كليهما في علم الله على السواء؛ كقوله تعالى: { { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } [هود: 5] الآية.

وقوله تعالى: { { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } [يونس: 61].

وقوله: { لَهُ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: للعبد ملائكة يتعاقبون عليه؛ حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه، وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة أملاك بالليل، بدلاً، حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون" . وفي الحديث الآخر: "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم"

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { لَهُ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } والمعقبات من الله هي الملائكة، وقال عكرمة عن ابن عباس { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله، خلوا عنه، وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده، إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه، فيصيبه.

وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { لَهُ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا، له حرس من دونه حرس، وقال العوفي عن ابن عباس: { لَهُ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني: ولي الشيطان يكون عليه الحرس. وقال عكرمة في تفسيرها: هؤلاء الأمراء، المواكب بين يديه ومن خلفه، وقال الضحاك في الآية: هو السلطان المحروس من أمر الله، وهم أهل الشرك، والظاهر - والله أعلم - أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديثاً غريباً جداً، فقال: حدثني المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري، حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد، كم معه من ملك؟ فقال: "ملك على يمينك على حسناتك، وهو أمير على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة، كتبت عشراً، وإذا عملت سيئة، قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أكتبها؟ قال: لا، لعله يستغفر الله، ويتوب، فيستأذنه ثلاث مرات، فإذا قال ثلاثاً، قال: اكتبها، أراحنا الله منه، فبئس القرين، ما أقل مراقبته لله، وأقل استحياءه منا يقول الله: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } الآية، وملك قابض على ناصيتك، فإِذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وملك قائم على فيك، لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك، فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي، ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي، وإبليس بالنهار، وولده بالليل"

وقال الإمام أحمدرحمه الله : حدثنا أسود بن عامر، حدثنا سفيان، حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة" قالوا: وإياك يارسول الله؟ قال: "وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير" ، انفرد بإخراجه مسلم. وقوله: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } قيل: المراد حفظهم له من أمر الله، رواه علي ابن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال قتادة: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } قال: وفي بعض القراءات: (يحفظونه بأمر الله) وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن لآدم كل سهل وكل حزن، لرأى كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطِّفْتم. وقال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له، وقال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال: احترس: فإن ناساً من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر، فإذا جاء القدر، خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة.

وقال بعضهم: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }: بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله أرأيت رُقَىٰ نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: "هي من قدر الله" . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن جهم، عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ }. وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي، حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة قال: كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه عز وجل قال: "قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي، ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي" ، وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه.