التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ
١٣
وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
١٤
وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
١٥
مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ
١٦
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
١٧
-إبراهيم

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم؛ من الإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم؛ كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: { { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ } [الأعراف: 88] الآية. وكما قال قوم لوط: { أَخْرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } الآية، وقال تعالى إِخباراً عن مشركي قريش: { { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَـٰفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء:76]. وقال تعالى: { { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } [الأنفال: 30] وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى، ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته، ومكن له فيها، وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان، ولهذا قال تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } وكما قال: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [الصافات:171-173]، وقال تعالى: { { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة: 21]، وقال تعالى: { { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } [الأنبياء: 105] الآية، و { { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128]، وقال تعالى: { { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 137] وقوله: { ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ } أي: وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخشي من وعيدي، وهو تخويفي وعذابي؛ كما قال تعالى: { { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات:37-39] وقال: { { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].

وقوله: { وَٱسْتَفْتَحُواْ } أي: استنصرت الرسل ربها على قومها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها؛ كما قالوا: { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] ويحتمل أن يكون هذا مراداً، وهذا مراداً؛ كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر، وقال الله تعالى للمشركين: { { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [الأنفال: 19] الآية، والله أعلم، { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي: متجبر في نفسه، عنيد معاند للحق؛ كقوله تعالى: { { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـٰعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } [ق:24-26] وفي الحديث: "إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق، فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد" الحديث، أي: خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله: { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } وراء هنا بمعنى أمام؛ كقوله تعالى: { { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79] وكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أمامهم ملك) أي: من وراء الجبار العنيد جهنم، أي: هي له بالمرصاد، يسكنها مخلداً يوم المعاد، ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } أي: في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق، فهذا حار في غاية الحرارة، وهذا بارد في غاية البرد والنتن، كما قال: { { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَٰجٌ } [ص:57-58] وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم. وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده، وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: "صديد أهل النار" . وفي رواية: "عصارة أهل النار"

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بُسر، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } قال: "يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوىٰ وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره" يقول الله تعالى: { { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] ويقول: { { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ } [الكهف: 29] الآية، وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.

وقوله: { يَتَجَرَّعُهُ } أي: يتغصصه ويتكرهه، أي: يشربه قهراً وقسراً، لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد؛ كما قال تعالى: { { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } [الحج: 21] { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي: يزدرده؛ لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي: يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره، وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة، أي: من جسده، حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير: { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي: من أمامه وخلفه، وفي رواية: وعن يمينه وشماله، ومن فوقه ومن تحت أرجله، ومن سائر أعضاء جسده.

وقال الضحاك عن ابن عباس: { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، ولكن لا يموت؛ لأن الله تعالى قال: { { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [فاطر: 36] ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه: أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه، لو كان يموت، ولكنه لا يموت؛ ليخلد في دوام العذاب والنكال، ولهذا قال تعالى: { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }.

وقوله: { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي: وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي: مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله، وأدهى وأمر، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: { { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَـٰطِينِ فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ } [الصافات:64-68] فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عياذاً بالله من ذلك، وهكذا قال تعالى: { { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ } [الرحمن:43-44]، وقال تعالى: { { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [الدخان:43-50]، وقال: { { وَأَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } [الواقعة:41-44]، وقال تعالى: { { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَٰجٌ } [ص:55-58] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم، وتكراره وأنواعه، وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقاً { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }.