التفاسير

< >
عرض

وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً
٤
فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً
٧
عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً
٨
-الإسراء

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم: أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علواً كبيراً، أي: يتجبرون ويطغون، ويفجرون على الناس؛ كقوله تعالى: { { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [الحجر: 66] أي: تقدمنا إليه، وأخبرناه بذلك، وأعلمناه به. وقوله: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـٰهُمَا } أي: أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي: سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد؛ أي: قوة وعدة وسلطنة شديدة، فجاسوا خلال الديار، أي: تملكوا بلادكم، وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين، لا يخافون أحداً، وكان وعداً مفعولاً.

وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجزري وجنوده، سلط عليهم أولاً، ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت، ولهذا قال: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } الآية، وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضاً وعن غيره: أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أن ملك البلاد، وأنه كان فقيراً مقعداً ضعيفاً يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقاً كثيراً من بني إسرائيل، وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطولاً، وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزيرحمه الله بأنه موضوع مكذورب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.

وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أرَ تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبره الله عنهم: أنهم لما طغوا وبغوا، سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام، فخرب بيت المقدس، وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبا، فسألهم، ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم، فسكن، وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ منهم خلقاً كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي: فعليها؛ كما قال تعالى: { { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46]. وقوله: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ } أي: الكرة الآخرة، أي: إذا أفسدتم الكرة الثانية، وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } أي: يهينوكم ويقهروكم، { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ } أي: بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار، { وَلِيُتَبِّرُواْ } أي: يدمروا ويخربوا { مَا عَلَوْاْ } أي: ما ظهروا عليه. { تَتْبِيرًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } أي: فيصرفهم عنكم، { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي متى عدتم إلى الإفساد، { عُدْنَا } إلى الإدالة عليكم في الدنيا، مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا } أي: مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس: حصيراً: أي: سجناً. وقال مجاهد: يحصرون فيها، وكذا قال غيره، وقال الحسن: فراشاً ومهاداً. وقال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحي محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.