التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

تفسير القرآن العظيم

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ } أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا، وقرأ يحيى بن يعمر: { ذكّر رحمتِ ربكَ عبدَه زكريا } وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان، وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي "صحيح البخاري": أنه كان نجاراً، يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه؛ لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة؛ لكبره، حكاه الماوردي، وقال آخرون: إنما أخفاه؛ لأنه أحب إلى الله، كما قال قتادة في هذه الآية: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }: إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي، وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام، وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب، يا رب، يا رب فقال الله له: لبيك لبيك لبيك { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعفت، وخارت القوى { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً }، أي: اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دريد في مقصورته:

أَما تَرَى رَأْسِيَ حاكَى لَوْنُهطُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيالِ الدُّجَى
واشْتَعَلَ المُبْيَضُّ في مُسْوَدِّةِمِثْلَ اشتعالِ النارِ في جَمْرِ الغَضا

والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك. وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى } قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر:

كَأَنَّ أَيْدِيْهِنَّ في القاعِ القَرِقْأَيْدِي جَوارٍ يَتَعاطَيْنَ الوَرِقْ

وقال الآخر:

فَتَّى لو يُباري الشَّمْسَ أَلْقَتْ قِناعَهاأو القَمَرَ الساري لأَلْقَى المقالِدا

ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:

تَغايَرَ الشِّعْرُ منهُ إِذْ سَهِرْتُ لَهُحَتَى ظَنَنْتُ قَوافِيْهِ سَتَقْتَتِلُ

وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي: العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي } بتشديد الفاء، بمعنى: قلت عصباتي من بعدي، وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده؛ ليسوسهم بنبوته ما يوحى إليه، فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم، هذا وجه.

[الثاني] أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

[الثالث] أنه قد ثبت في "الصحيحين" من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: "نحن معشر الأنبياء لا نورث" ، وعلى هذا فتعين حمل قوله: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } على ميراث النبوة، ولهذا قال؛ { وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } كقوله: { { وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ } [النمل: 16] أي: في النبوة، إذ لو كان في المال، لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة، لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" .

قال مجاهد في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } كان وراثته علماً، وكان زكريا من ذرية يعقوب، وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } قال: يكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، عن الحسن: يرث نبوته وعلمه، وقال السدي: يرث نبوتي، ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم: { وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } قال: نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.

وقال عبد الزراق: أخبرنا معمر عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله زكريا، وما كان عليه من وراثة ماله، ويرحم الله لوطاً، إن كان ليأوي إلى ركن شديد" . وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح عن مبارك، هو ابن فضالة، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي زكريا، ما كان عليه من وراثة ماله حين قال: هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب" وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم. وقوله: { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } أي: مرضياً عندك وعند خلقك، تحبه، وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.