التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
-البقرة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر، ضعف دية القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً، فقال تعالى: { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }، يعني: إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم: { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } منها منسوخة نسختها { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: { وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: { { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } [المائدة: 45] فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد؛ رجالهم ونساؤهم، في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد، في النفس وفيما دون النفس، رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ }.

(مسألة) ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد؛ لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم، قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي و الثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه" وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه، ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر؛ لما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به؛ لعموم آية المائدة.

(مسألة) قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة؛ لهذه الآية، وخالفهم الجمهور؛ لآية المائدة، ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته، لا يقتل بها خاصة.

(مسألة) ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة، فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت، ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر، وقوله: { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ } قال مجاهد عن ابن عباس { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان. وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ } يعني: فمن ترك له من أخيه شيء، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو، { فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ } يعني: من القاتل، من غير ضرر ولا معك، يعني: المدافعة، وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب بإحسان. وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ابن أنس والسدي ومقاتل بن حيان.

(مسألة) قال مالكرحمه الله في رواية ابن القاسم عنه، وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض.

(مسألة) وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي، وخالفهم الباقون، وقوله: { ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوماً على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإِحسان. وقد رواه غير واحد عن عمرو، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار، ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه، وقال قتادة: { ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة، وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو، ليس بينهم أرش، وكان أهل الانجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش، وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا. وقوله: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد. وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل أو خبل، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك، فله نار جهنم خالداً فيها" رواه أحمد، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية" يعني: لا أقبل منه الدية، بل أقتله.

وقوله: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان { يٰأُولِي ٱلأَلْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.