التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
-البقرة

تفسير القرآن العظيم

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله تعالى: { { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [البقرة: 17] وقوله: { { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: { هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب، والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية، قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ أن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا رياً، أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ } [الأنعام: 44] هكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه، فالله أعلم. فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي؛ لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أيَّ مثل كان، بأي شيء كان، صغيراً كان أو كبيراً، و { ما } ههنا للتقليل، وتكون بعوضة منصوبة على البدل؛ كما تقول: لأضربن ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء. أو تكون { ما } نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن ما موصولة، وبعوضة معربة بإعرابها، قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة مَا ومَنْ بإعرابهما؛ لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى؛ كما قال حسان بن ثابت:

يَكْفِي بِنا فَضْلاً على مَنْ غَيْرِناحُبُّ النَّبِي مُحَمَّدٍ إِيّانا

قال: ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة بعوضة بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لما، وحذف العائد؛ كما في قوله: { تماماً على الذي أَحْسَنُ } [الأنعام: 154] أي: على الذي هو أحسن، وحكى سيبوبه: ما أنا بالذي قائلٌ لك شيئاً، أي: بالذي هو قائل لك شيئاً. وقوله تعالى: { فَمَا فَوْقَهَا } فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر والحقارة؛ كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول الكسائي وأبي عبيد، قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، لما سقى كافراً منها شربة ماء" والثاني: فما فوقها: لما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، وهذا قول قتادة ابن دعامة، واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً، ولو كان في الحقارة والصغر، كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73] وقال: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 41] وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَآءِ تُؤْتِىۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } [إبراهيم: 24 - 27] وقال تعالى: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْءٍ } [النحل: 75] الآية، ثم قال: { { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } [النحل: 76] الآية، كما قال: { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } [الروم: 28] الآية. وقال: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـٰكِسُونَ } [الزمر: 29] الآية. وقال: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } [العنكبوت: 43] وفي القرآن أمثال كثيرة، قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن، فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله قال: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } [العنكبوت: 43] وقال مجاهد في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها. وقال قتادة: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله، وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يعني: هذا المثل { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } كما قال في سورة المدثر: { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر: 31] وكذلك قال ههنا: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: يضل به كثيراً يعني به: المنافقين، ويهدي به: المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم؛ لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، ويهدي به، يعني: المثل، كثيراً من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم، وإيماناً إلى إيمانهم؛ لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً، وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال: هم المنافقون، وقال أبو العالية: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال: هم أهل النفاق، وكذا قال الربيع ابن أنس، وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال: يقول: يعرفه الكافرون، فيكفرون به. وقال قتادة: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } فسقوا، فأضلهم الله على فسقهم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني: الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي، فقلت: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ } إلى آخر الآية: فقال: هم الحرورية، وهذا الإسناد، وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فهو تفسير على المعنى، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على عليّ بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام، والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضاً، وتقول العرب: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة: فويسقة؛ لخروجها عن جحرها للفساد، وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُولَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين؛ كما قال تعالى في سورة الرعد: { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَـٰقَ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [الرعد: 19 - 21] الآيات، إلى أن قال: { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } [الرعد: 25] وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة، من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً. وهذا اختيار ابن جريررحمه الله ، وهو قول مقاتل بن حيان.

وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهد إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب، مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل ابن حيان أيضاً نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري؛ فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمرٌ وصّاهم به، ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: { { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: { { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِىۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة: 40] وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } [الأعراف: 172] الآيتين، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ } - إلى قوله - { أُولَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } قال: هي ست خصال من المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس، أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم، أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضاً، وقال السدي في تفسيره بإسناده: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ } قال: هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به، ثم كفروا فنقضوه.

وقوله: { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات؛ كما فسره قتادة؛ كقوله تعالى: { { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله، فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: { أُولَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } قال: في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } [الرعد: 25] وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الاسلام، فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى: { أُولَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته؛ كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر، خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر الرجل يخسر خسراً وخسراناً وخساراً؛ كما قال جرير بن عطية:

إِنَّ سَليطاً في الخَسارِ إنّهْأولادُ قومٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ