يقول تعالى: { فَلَمَّآ أَتَاهَا } أي: النار، واقترب منها، { نُودِىَ يٰمُوسَىٰ } وفي الآية الأخرى:
{ { نُودِىَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِى ٱلأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّىۤ أَنَا ٱللَّهُ } [القصص: 30] وقال ههنا: { إِنِّىۤ أَنَاْ رَبُّكَ } أي: الذي يكلمك ويخاطبك { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي، وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة. وقال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل غير ذلك، والله أعلم. وقوله: { طُوًى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان، وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، وقيل: لأنه قدس مرتين، وطوى له البركة وكررت، والأول أصح كقوله:
{ { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً } [النازعات: 16]. وقوله: { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } كقوله: { { إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي } [الأعراف: 144] أي: على جميع الناس من الموجودين في زمانه، وقد قيل: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم خصصتك بالتلكيم من بين الناس؟ قال: لا، قال: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله: { فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } أي: استمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك: { إِنَّنِىۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقوله: { فَٱعْبُدْنِى } أي: وحدني، وقم بعبادتي من غير شريك { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىۤ } قيل: معناه: صَلِّ لتذكرني، وقيل: معناه: وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري" ، وفي "الصحيحين" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" . وقوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ } أي: قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها. وقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال الضحاك عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها: (أكاد أخفيها من نفسي) يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه، وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري. وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود: (إني أكاد أخفيها من نفسي) يقول: كتمتها من الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة: أكاد أخفيها، وهي في بعض القراءات: (أخفيها من نفسي) ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء والمرسلين. قلت: وهذا كقوله تعالى:
{ { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النمل: 65] وقال: { { ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [الأعراف: 187] أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا منجاب، حدثنا أبو تميلة، حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وِقَاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: (أكاد أخفيها)، يعني بنصب الألف وخفض الفاء، يقول: أظهرها، ثم قال: أما سمعت قول الشاعر:دَأْبَ شَهْرَيْنِ ثُمَّ شَهْراً دَمِيكاًبِأَريكَيْنِ يُخْفِيانِ غَميراً
قال السدي: الغمير: نبت رطب ينبت في خلال يبس، والأريكين موضع، والدميك الشهر التام، وهذا الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } أي: أقيمها لا محالة؛ لأجزي كل عامل بعمله { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7 - 8] و { { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 16] وقوله: { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } الآية، المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي: لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك، فقد خاب وخسر { فَتَرْدَىٰ } أي: تهلك وتعطب، قال الله تعالى: { { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11].