هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل. وقوله: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له، وقيل: وإنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } استفهام تقرير { قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا } أي: أعتمد عليها في حال المشي { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى } أي: أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها؛ لترعاه غنمي. قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: الهش: أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط، وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً.
وقوله: { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ } أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك، لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعباناً، فما كان يفر منها هارباً، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام، وقول الآخر: إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها ماشا، والله أعلم بالصواب.
وقوله تعالى: { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } أي: هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها، { فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } أي: صارت في الحال حية عظيمة: ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، { تَسْعَىٰ } أي: تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جميع، حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس { فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، ونودي: أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين، فأخذها.
وقال وهب بن منبه في قوله: { فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، فَدَبّ يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، قيل: شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع، فيه أضراس وأنياب لها صريف، فلما عاين ذلك موسى، ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه، فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال: { خُذْهَا } بيمينك، { وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها، أدلى طرف المدرعة على يده، فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال: لا ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت، فكشف عن يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض، فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين، ولهذا قال تعالى: { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } أي: إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.