التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
-الحج

تفسير القرآن العظيم

ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا في بدر، لفظ البخاري عند تفسيرها، ثم قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب: أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه، وأنزل: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس. وقال شعبة عن قتادة في قوله: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } قال: مصدق ومكذب. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون.

وقال عكرمة: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ } قال: هي الجنة والنار، قالت النار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة: اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن، ولهذا قال: { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ } أي: فصلت لهم مقطعات من النار، قال سعيد بن جبير: من نحاس، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي، { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } أي: إذا صب على رؤوسهم الحميم، وهو الماء الحار في غاية الحرارة. وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم، وكذلك تذوب جلودهم، وقال ابن عباس وسعيد: تساقط.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان" ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال: حسن صحيح، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه، تكرهه، قال: فيرفع مقمعة معه، فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله: { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ }.

وقوله: { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان، ما أقلوه من الأرض" وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو ضرب الجبل بمقمع من حديد، لتفتت، ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا، لأنتن أهل الدنيا" وقال ابن عباس في قوله: { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله، فيدعون بالثبور.

وقوله: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها. وقوله: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } كقوله: { { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة: 20] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً.