التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٧٧
وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

تفسير القرآن العظيم

اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها، أم لا؟ على قولين، وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم "فضلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما، فلا يقرأهما" . وقوله: { وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ } أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102]. وقوله: { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ } أي: يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا" ، والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني: من ضيق.

وقوله: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ } قال ابن جرير: نصب على تقدير: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي: من ضيق، بل وسعه عليكم؛ كملة أبيكم إبراهيم، قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم. (قلت): وهذا المعنى في هذه الآية كقوله: { { قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } [الأنعام: 161] الآية، وقوله: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا } قال الإمام عبد الله بن المبارك: عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } قال: الله عز وجل، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } يعني: إبراهيم، وذلك لقوله: { { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا } قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي الذكر، { وَفِى هَـٰذَا } يعني: القرآن، وكذا قال غيره. (قلت): وهذا هو الصواب، لأنه تعالى قال: { هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } أي: من قبل هذا القرآن، { وَفِى هَـٰذَا } روى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أنبأنا معاوية بن سلام: أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام: أنه أخبره، قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثي جهنم" قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: "نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: { { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21] من سورة البقرة، ولهذا قال: { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولاً خياراً، مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ }؛ لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: { { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143] وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.

وقوله: { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ } أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله: { وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ } أي: اعتضدوا بالله، واستعينوا به، وتوكلوا عليه، وتأيدوا به، { هُوَ مَوْلَـٰكُمْ } أي: حافظكم وناصركم، ومظفركم على أعدائكم { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد: يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم، والله أعلم. وله الحمد والمنة والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة في سائر الأفعال والأقوال

وهذا آخر تفسير سورة "الحج"، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم وشرف وكرم، ورضي الله عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين