التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
٧
أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
٨
ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
٩
تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً
١٠
بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً
١١
إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
١٢
وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
١٣
لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
١٤
-الفرقان

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم، وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم، وإنما تعللوا بقولهم: { مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ } يعنون: كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه، { وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } أي: يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه، وهذا كما قال فرعون: { فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [الزخرف: 53] وكذلك قال هؤلاء على السواء، تشابهت قلوبهم، ولهذا قالوا: { أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي: علم كنز ينفق منه { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي: تسير معه حيث سار، وهذا كله سهل يسير على الله، ولكن له الحكمة في ترك ذلك، وله الحجة البالغة، { وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } قال الله تعالى: { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ } أي: جاؤوا بما يقذفونك به، ويكذبون به عليك؛ من قولهم: ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر، وكلها أقوال باطلة، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك، ولهذا قال: { فُضِّلُواْ } عن طريق الهدى، { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى، فإنه ضال حيثما توجه؛ لأن الحق واحد، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً.

ثم قال تعالى مخبراً نبيه: أنه إن شاء، لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا، وأفضل وأحسن، فقال: { تَبَارَكَ ٱلَّذِىۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ } الآية، قال مجاهد: يعني: في الدنيا، قال: وقريش يسمون كل بيت من حجارة: قصراً، كبيراً كان أو صغيراً، قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: "اجمعوها لي في الآخرة" فأنزل الله عز وجل في ذلك: { تَبَارَكَ ٱلَّذِىۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ } الآية.

وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ } أي: إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً، لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال { وَأَعْتَدْنَا } أي: أرصدنا { لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } أي: عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم. قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير: { السعير } واد من قيح جهنم. وقوله: { إِذَا رَأَتْهُمْ } أي: جهنم { مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني: في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام، { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي: حنقاً عليهم؛ كما قال تعالى: { { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } [الملك: 7 ــــ 8] أي: يكاد ينفصل بعضها عن بعض؛ من شدة غيظها على من كفر بالله.

وروى ابن أبي حاتم: حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخيف الواسطي: أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير، عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله: "من يقل علي ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ مقعده من النار ــــ وفي رواية ــــ فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً" قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: "أما سمعتم الله يقول: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } الآية؟" ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله، يعني: ابن مسعود، ومعنا الربيع بن خيثم، فمروا على حداد، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، ونظر الربيع بن خيثم إليها، فتمايل الربيع ليسقط، فمر عبد الله على أتون على شاطىء الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه، قرأ هذه الآية: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فصعق، يعني: الربيع، وحملوه إلى أهل بيته، فرابطه عبد الله إلى الظهر، فلم يفق رضي الله عنه.

وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن العبد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف، هكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده مختصراً، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار، فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ قالت: إنه يستجير مني، فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار، فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك، فيقول: فما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار، فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف، وهذا إسناد صحيح.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله: { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } قال: إن جهنم لتزفر زفرة لايبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرَّ لوجهه ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وقوله: { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ } قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح، أي: من ضيقه، وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قول الله: { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ } قال: "والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط"

وقوله: { مُّقَرَّنِينَ } قال أبو صالح: يعني: مكتفين { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } أي: بالويل والحسرة والخيبة { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَٰحِداً } الآية. روى الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: ياثبوراه، وينادون ياثبورهم حتى يقفوا على النار، فيقول: يا ثبوراه، ويقولون: ياثبورهم، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً، وادعوا ثبوراً كثيراً" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به، ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَٰحِداً } الآية، أي: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً، وادعوا ويلاً كثيراً، وقال الضحاك: الثبور: الهلاك، والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: { وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُورًا } [الإسراء: 102] أي: هالكاً. وقال عبد الله بن الزبعرى:

إِذْ أُجاري الشيطانَ في سَنَنِ الغَــيِّ ومَنْ مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ