التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
٤٨
قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٩
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٠
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٥١
-القصص

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم، لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول: أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد: { لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ } الآية، يعنون ــــ والله أعلم ــــ من الآيات الكثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار؛ مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام؛ حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه، بل كفروا بموسى وأخيه هارون، كما قالوا لهما: { { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [يونس: 78] وقال تعالى: { { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ } [المؤمنون: 48] ولهذا قال ههنا: { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } أي: أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة، { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَـٰهَرَا } أي: تعاونا، { إِنَّا بِكُلٍّ كَـٰفِرُونَ } أي: بكل منهما كافرون، ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون، دل ذكر أحدهما على الآخر، كما قال الشاعر:

فما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أَرضاًأُريدُ الخيرَ أَيُّهما يَليني

أي: فما أدري: أيليني الخير، أو الشر؟ قال مجاهد بن جبر: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الله: { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَـٰهَرَا } قال: يعني: موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم { تَظَـٰهَرَا } أي: تعاونا وتناصرا، وصدق كل منهما الآخر وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله: { سِحْرَانِ } يعنون: موسى وهارون، وهذا قول جيد قوي، والله أعلم. وقال مسلم بن يسار عن ابن عباس { قالوا سِحْرَانِ تظاهرا } قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلَّم، وهذه رواية عن الحسن البصري. وقال الحسن وقتادة: يعني عيسى ومحمداً صلَّى الله عليهما وسلَّم، وهذا فيه بعد؛ لأن عيسى لم يجر له ذكر ههنا، والله أعلم.

وأما من قرأ: { سِحْرَانِ تَظَـٰهَرَا } فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يعنون التوراة والقرآن، وكذا قال عاصم الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال السدي: يعني: صدق كل واحد منهما الآخر. وقال عكرمة: يعنون: التوراة والإنجيل، وهو رواية عن أبي زرعة، واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة: الإنجيل والقرآن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، والظاهر على قراءة { سِحْرَانِ } أنهم يعنون التوراة والقرآن؛ لأنه قال بعده: { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ } وكثيراً ما يقرن الله بين التوراة والقرآن؛ كما في قوله تعالى: { { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } ــــ إلى أن قال ـــ { { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [سورة الأنعام: 91 ــــ 155] وقال في آخر السورة: { { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } [الأنعام: 154] الآية، وقال: { { وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأنعام: 155] وقالت الجن: { { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [الأحقاف: 30] وقال ورقة ابن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء، فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه، أكمل ولا أشمل، ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه: { { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } [المائدة: 44] والإنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة، ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل، ولهذا قال تعالى: { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } أي: فيما تدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطل، قال الله تعالى: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } أي: فإن لم يجيبوك عما قلت لهم، ولم يتبعوا الحق، { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } أي: بلا دليل ولا حجة، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ } أي: بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }.

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ } قال مجاهد: فصلنا لهم القول. وقال السدي: بينا لهم القول. وقال قتادة: يقول تعالى: أخبرهم كيف صنع بمن مضى، وكيف هو صانع؛ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } قال مجاهد وغيره: { وَصَّلْنَا لَهُمُ } يعني: قريشاً، وهذا هو الظاهر، لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة - رفاعة هذا هو ابن قرظة القرظي، وجعله ابن منده: رفاعة بن سموال خال صفية بنت حيي، وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا، كذا ذكره ابن الأثير ـ قال: نزلت: { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ } في عشرة، أنا أحدهم، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه.