التفاسير

< >
عرض

شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠
-آل عمران

تفسير القرآن العظيم

شهد تعالى، وكفى به شهيداً، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه، وهوالغني عما سواه، كما قال تعالى: { { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } [النساء: 166] الآية، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام { قائماً بالقسط } منصوب على الحال، وهو في جميع الأحوال كذلك { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } تأكيد لما سبق، { ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } العزيز الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني جبير بن عمرو القرشي، حدثنا أبو سعيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة - يقرأ هذه الآية: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب. وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا علي بن حسين، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } قال: "وأنا أشهد أي رب" وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي، قالا: حدثنا عمار بن عمر بن المختار، حدثني أبي، حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة، أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل، فمر بهذه الآية: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ } ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ } قالها مراراً، قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فغدوت إليه، فودعته ثم قلت: يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية، قال: أوما بلغك ما فيها؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة، فأقمت سنة، فكنت على بابه، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد، قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إليّ، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة" . وقوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ } إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل، كما قال تعالى: { { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85] الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }. وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }، بكسر إنه، وفتح أن الدين عند الله الإسلام، أي: شهد هو والملائكة وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام، والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح، ولكن هذا على قول الجمهور أظهر، والله أعلم، ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال: { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي: بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق؛ لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } أي: من جحد ما أنزل الله في كتابه { فَإِنَّ ٱللَّهِ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي: فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه.

ثم قال تعالى: { فَإنْ حَآجُّوكَ } أي: جادلوك في التوحيد { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } أي: فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، { وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } أي: على ديني يقول كمقالتي، كما قال تعالى: { { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِىۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى } [يوسف: 108] الآية، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه، والدخول في شرعه وما بعثه الله به، الكتابيين من الملتين، والأميين من المشركين، فقال تعالى: { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ } أي: والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. ولهذا قال تعالى: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي { { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـأَلُونَ } [الأنبياء: 23] وما ذلك إلا لحكمته ورحمته. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق؛ كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: { { قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف: 158] وقال تعالى: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم؛ من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم؛ امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار" رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت إلى الأحمر والأسود" ، وقال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" .

وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا فلان قل: لا إله إلا الله" فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أخرجه بي من النار" رواه البخاري في الصحيح، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.