التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
-الأحزاب

تفسير القرآن العظيم

لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه؛ لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق { صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } قال بعضهم: أجله. وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إِلى الأول، { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: لما نسخنا المصحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إِلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } تفرد به البخاري دون مسلم، وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } الآية، انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين واهاً لريح الجنة، إِني أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيّع بنة النضر: فما عرفت أخي إِلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به. ورواه النسائي أيضاً وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس، رضي الله عنه قال: إِن عمه، يعني: أنس بن النضر رضي الله عنه، غاب عن قتال بدر، قال: غُيِّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين، ليرين الله تعالى ما أصنع، قال: فلما كان يوم أحد، انكشف المسلمون، فقال: اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء ــــ يعني: أصحابه ــــ وأبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء ــــ يعني: المشركين ــــ ثم تقدم، فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد، فقال: أنا معك. قال سعد رضي الله عنه: فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فلما قتل قال: فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم، وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه نزلت: { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ }. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضاً عن إِسحاق بن إِبراهيم، كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي: حسن. وقد رواه البخاري في المغازي عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به، ولم يذكر نزول الآية. ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن سلملن، بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال: لما أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، صعد المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } الآية كلها، فقام إِليه رجل من المسلمين فقال: يارسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت، وعلي ثوبان أخضران حضرميان، فقال: "أيها السائل هذا منهم" وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضاً، وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر ــــ يعني: العقدي ــــ حدثني إسحاق ــــ يعني: ابن طلحة بن عبيد الله ــــ عن موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال: ألا أضع عندك يابن أخي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" .

ورواه ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني: عهده { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } قال: يوماً فيه القتال، فيصدق في اللقاء. وقال الحسن: { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني: موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدل تبديلاً، وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم: نحبه: نذره.

وقوله تعالى: { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي: وما غيروا عهدهم، وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا عليه، وما نقضوه؛ كفعل المنافقين الذين قالوا: { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَـٰرَ }. وقوله تعالى: { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي: إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال؛ ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم؛ كما قال تعالى: { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ } [محمد: 31] فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى: { { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [آل عمران: 179] ولهذا قال تعالى ههنا: { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ } وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه، وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان، والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.