التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٣٧
-الأحزاب

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهو الذي أنعم الله عليه، أي: بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي: بالعتق من الرق، وكان سيداً كبير الشأن، جليل القدر، حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: الحب، ويقال لابنه أسامة: الحب بن الحب، قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه، رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد ابن عبيد عن وائل بن داود عن عبد الله البهي عنها.

وقال البزار: حدثنا خالد بن يوسف، حدثنا أبو عوانة، "ح" وحدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عوانة، أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقالا: ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما حاجتهما؟" قلت: لا يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: "لكني أدري" قال: فأذن لهما، قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا: أي أهلك أحب إِليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد" قالا: يا رسول الله ما نسألك عن فاطمة، قال صلى الله عليه وسلم: "فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهماً، وخماراً وملحفة ودرعاً، وخمسين مداً من طعام، وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكثتُ عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "أمسك عليك زوجك، واتق الله" قال الله تعالى: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً؛ لعدم صحتها، فلا نوردها.

وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن هذه الآية: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن هذه الآية: { وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا } نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } فذكرت له، فقال: لا، ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه، قال: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك.

وقال ابن جرير: حدثنا إِسحاق بن شاهين، حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى، لكتم: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } وقوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر: هو الحاجة والأرب، أي: لما فرغ منها وفارقها، زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل، بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر.

قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، يعني: ابن القاسم، أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرها علي" فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها، عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يازينب أبشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن، ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا، أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: { { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [الأحزاب: 53] الآية كلها، ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به.

وقد روى البخاريرحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي، فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سمٰوات، وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما، فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدل عليك بثلاث، وما من نسائك امرأة تدل بهن: إِن جدي وجدك واحد، وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي: إِنما أبحنا لك تزويجها، وفعلنا ذلك؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه، فكان يقال له: زيد بن محمد، فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمَْ } ــــ إِلى قوله تعالى ــــ { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى في آية التحريم: { { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [النساء: 23] ليحترز من الابن الدعي، فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي: وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه، وهو كائن لامحالة، كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.