التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٤٩
-الأحزاب

تفسير القرآن العظيم

هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية، فإنه استعمل في العقد وحده؛ لقوله تبارك وتعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.

وقوله تعالى: { ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق، وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح؛ لأن الله تعالى قال: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فعندهما متى تزوجها، طلقت منه، واختلفا فيما إذا قال: كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفةرحمه الله : كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه، فأما الجمهور، فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا يونس، يعني: ابن أبي إسحاق، قال: سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية. وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عز وجل: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح، وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طلاق قبل نكاحٍ" .

وقوله عز وجل: { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها، فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً، وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى: { { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] وقال عز وجل: { { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَـٰعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 236] وفي "صحيح البخاري": عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً، أمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.