التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٣٤
وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
٣٥
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
٣٧
وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
٣٨
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٣٩
-سبأ

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إِلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم؛ كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام: { { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [الشعراء: 111] { { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى } [هود: 27] وقال الكبراء من قوم صالح { { لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا بِٱلَّذِىۤ ءَامَنتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } [الأعراف: 75 ــــ 76] وقال عز وجل: { { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ } ؟ [الأنعام: 53] وقال تعالى: { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [الأنعام: 123] وقال جل وعلا: { { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16] وقال جل وعلا ههنا: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } أي: نبي أو رسول { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة، قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر: { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } أي: لا نؤمن به، ولا نتبعه.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هارون بن إِسحاق، حدثنا محمد ابن عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إِلى صاحبه يسأله ما فعل، فكتب إِليه أنه لم يتبعه أحد من قريش، إِنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال: فترك تجارته، ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه، قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى كذا وكذا" قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم "وما علمك بذلك؟" قال: إِنه لم يبعث نبي إِلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال: فنزلت هذه الآية: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } الآية، قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إِن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت" وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل، قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ فزعمت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.

وقال تبارك وتعالى إِخباراً عن المترفين المكذبين: { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي: افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم، واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك، قال الله تعالى: { { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 55 ــــ 56] وقال تبارك وتعالى: { { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } [التوبة: 55] وقال عز وجل: { { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لأَِيَـٰتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [المدثر: 11 ــــ 17] وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين: أنه كان ذا مال وثمر وولد، ثم لم يغن عنه شيئاً، بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال عز وجل ها هنا: { قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي: يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، فيفقر من يشاء، ويغني من يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.

ثم قال تعالى: { وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } أي: ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم. قال الإمام أحمدرحمه الله : حدثنا كثير، حدثنا جعفر، حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إِنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به، ولهذا قال الله تعالى: { إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً } أي: إِنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح، { فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } أي: تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، { وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ } أي: في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إِسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها" فقال أعرابي: لمن هي؟ قال صلى الله عليه وسلم "لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" .{ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِينَ } أي: يسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته { أُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي: جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.

وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي: بحسب ماله في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيراً، ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جداً، وله في ذلك من الحكمة مالا يدركها غيره؛ كما قال تعالى: { { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21] أي: كما هم متفاوتون في الدنيا؛ هذا فقير مدقع، وهذا غني موسع عليه، فكذلك هم في الآخرة، هذا في الغرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغمرات في أسفل الدركات، وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه" رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.

وقوله تعالى: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث: "يقول الله تعالى: أنفق، أنفق عليك" وفي الحديث: أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إِقلالاً" . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق" ثم تلا هذه الآية { وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق" قال الله تعالى: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } وفي الحديث: "شرار الناس يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام، ألا إن بيع المضطرين حرام، المسلم، أخو المسلم لايظلمه ولايخذله، إن كان عندك معروف، فعد به على أخيك، وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه" هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد: لا يتأولن أحدكم هذه الآية: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } إذا كان عند أحدكم ما يقيمه، فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.