التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
-الزمر

تفسير القرآن العظيم

هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم، المنزل على رسوله الكريم. قال الله تعالى: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ } قال مجاهد: يعني: القرآن كله متشابه مثاني، وقال قتادة: الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف. وقال الضحاك: مثاني: ترديد القول؛ ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى. وقال عكرمة والحسن: ثنى الله فيه القضاء. زاد الحسن: تكون السورة فيها آية، وفي السورة الأخرى آية تشبهها، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مثاني: مردد، ردد موسى في القرآن، وصالح وهود، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: مثاني، قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويرد بعضه على بعض، وقال بعض العلماء، ويروى عن سفيان بن عيينة: معنى قوله تعالى: { مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ } أنّ سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد، فهذا من المتشابه، وتارة تكون بذكر الشيء وضده؛ كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وما أشبه هذا، فهذا من المثاني؛ كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 ــــ 14] وكقوله عز وجل: { { كَلآ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ } [المطففين: 7] ــــ إلى أن قال ــــ { { كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ } [المطففين: 18] { هَـٰذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـئَابٍ } ــــ إلى أن قال ــــ { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ } ونحو هذا من السياقات، فهذا كله من المثاني، أي: في معنيين اثنين. وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضاً، فهو المتشابه، وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى: { مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } [آل عمران: 7] ذاك معنى آخر. وقوله تعالى: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي: هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار؛ لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن، خروا سجداً وبكياً، بأدب وخشية ورجاء، ومحبة وفهم وعلم؛ كما قال تبارك وتعالى: { { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 2 ــــ 4] وقال تعالى: { { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِـآيَـٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [الفرقان:73] أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها، فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة، لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.

(الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها؛ كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. ولم يكونوا يتصارخون، ولا يتكلفون بما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. قال عبد الرزاق: حدثنا معمر قال: تلا قتادةرحمه الله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.

وقال السدي: { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي: إلى وعد الله، وقوله: { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله الله، { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.