التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
-النساء

تفسير القرآن العظيم

هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع، والمحارم بالصهر، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: حرمت عليكم سبع نسباً، وسبع صهراً، وقرأ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ } الآية. وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّـٰتُكُمْ وَخَـٰلَـٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ } فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: { وَبَنَـٰتُكُمْ } فإنها بنت، فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها؛ لأنها ليست بنتاً شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىۤ أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَأُمَّهَـٰتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ } أي: كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة" ، وفي لفظ لمسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" ، وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع، إلا في أربع صور، وقال بعضهم: ست صور، هي مذكورة في كتب الفروع، والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على الحديث شيء أصلاً ألبتة، ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع؛ لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات؛ لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" وقال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، والمصة ولا المصتان" ، وفي لفظ آخر: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير، رحمهم الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات؛ لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمْرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان فيما أنزل من القرآن: "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات. وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات، وبهذا قال الشافعي وأصحابه، ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله: { { يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول؛ كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم، أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط، ولا ينتشر إلى ناحية الأب؛ كما هو قول لبعض السلف؟ على قولين، تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير. وقوله: { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱللَّـٰتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }، أما أم المرأة، فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل، وأما الربيبة، وهي بنت المرأة، فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل، فإن طلق الأم قبل الدخول بها، جاز له أن يتزوج بنتها، ولهذا قال: { وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱللَّـٰتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها، لقوله: { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله تعالى عنه، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. وحدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة، عن سعيد، عن زيد بن ثابت، أنه كان يقول: إذا ماتت عنده، فأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمها، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع: أن بكر بن كنانة أخبره: أن أباه أنكحه امرأة بالطائف، قال: فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي: هل لك في أمها؟ قال: فسألت ابن عباس، وأخبرته الخبر، فقال: انكح أمها، قال: وسألت ابن عمر، فقال: لا تنكحها، فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية، فأخبره بما قالا، فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله، وأنت وذاك، والنساء سواها كثير. فلم ينه، ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها، فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير، قال: الربيبة والأم سواء، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة، وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهداً قال له: { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ } أراد بهما الدخول جميعاً، فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس، وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي. وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه. قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري، عن أبي فروة، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود: أن رجلاً من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة، فرأى أمها فأعجبته، فاستفتى ابن مسعود، فأمره أن يفارقها، ثم يتزوج أمها، فتزوجها، وولدت له أولاداً، ثم أتى ابن مسعود المدينة، فسأل عن ذلك، فأخبر أنها لا تحل له، فلما رجع إلى الكوفة، قال للرجل: إنها عليك حرام، ففارقها. وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم، بخلاف الأم، فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة، حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها، أو ماتت، لم تحل له أمها، وروي أنه قال: إنها مبهمة، فكرهها. ثم قال: وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، ولله الحمد والمنة. قال ابن جرير: والصواب أعني قول من قال: الأم من المبهمات؛ لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر، غير أن في إسناده نظراً، وهو ما حدثني به المثنى، حدثنا حبان بن موسى، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نكح الرجل المرأة، فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم، فلم يدخل بها، ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة»، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما قوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ } فالجمهور على أن الربيبة حرام، سواء كانت في حجر الرجل، أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له؛ كقوله تعالى: { { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [النور: 33]. وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان، وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان، قال: "أو تحبين ذلك" ؟ قالت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، قال: "فإن ذلك لا يحل لي" . قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: "بنت أم سلمة" ؟ قالت: نعم قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" وفي رواية للبخاري: "إني لو لم أتزوج أم سلمة، ما حلت لي" فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة، وحكم بالتحريم لذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل: بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم تكن كذلك، فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام ـ يعني: ابن يوسف ـ عن ابن جريج، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كانت عندي امرأة، فتوفيت، وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي ابن أبي طالب، فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله: { وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ }؟ قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك، هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم، وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالكرحمه الله ، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين بن تيميةرحمه الله ، فاستشكله، وتوقف في ذلك، والله أعلم. وقال ابن المنذر: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله: { ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ }، قال: في بيوتكم، وأما الربيبة في ملك اليمين، فقد قال الإمام مالك بن أنس، عن ابن شهاب: إن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين، توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعاً، يريد: أن أطأهما جميعاً، بملك يميني، وهذا منقطع. وقال سنيد ابن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس، قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البررحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين؛ لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح، إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى، ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح، وإن كانت أسفل ببطون كثيرة، وكذا قال قتادة عن أبي العالية. ومعنى قوله: { ٱللَّـٰتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أي: نكحتموهن، قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء: هو أن تهدى إليه، فيكشف ويفتش، ويجلس بين رجليها. وقلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها؟ قال: هو سواء، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.

وقوله تعالى: { وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ } أي: وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية؛ كما قال تعالى: { { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } [الأحزاب: 37] الآية، وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: { وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ }. قال: كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد، قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله عز وجل: { وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ } ونزلت: { { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [الأحزاب: 4]، ونزلت: { { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ } [الأحزاب: 4]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا خالد ابن الحارث عن الأشعث، عن الحسن بن محمد: أن هؤلاء الآيات مبهمات: { وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ } { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَآئِكُمْ }، ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول، نحو ذلك. (قلت): معنى مبهمات، أي: عامة في المدخول بها، وغير المدخول، فتحرم بمجرد العقد عليها، وهذا متفق عليه، فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة؛ كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعاً، وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" . وقوله تعالى: { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الآية. أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج، وكذا في ملك اليمين، إلا ما كان منكم في جاهليتكم، فقد عفونا عنه، وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل، لأنه استثنى مما سلف، كما قال: { { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [الدخان: 56] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان، خيّر، فيمسك إحداهما، ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجَيْشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه، قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة، وأخرجه أبو داود والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني، قال الترمذي: واسمه ديلم بن الهوشع، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه، به، وفي لفظ للترمذي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اختر أيتهما شئت" ، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه ابن ماجه أيضاً بإسناد آخر فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي وهب الجَيْشاني، عن أبي خراش الرعيني، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية، فقال: "إذا رجعت، فطلق إحداهما" قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز، ويحتمل أن يكون غيره، فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي، والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني، حدثنا هيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رُزَيق بن حكيم، عن كثير بن مرة، عن الديلمي، قال: قلت: يا رسول الله، إن تحتي أختين، قال: "طلق أيهما شئت" ، فالديلمي المذكور أولاً هو الضحاك بن فيروز الديلمي، قال أبو زرعة الدمشقي: كان يصحب عبد الملك بن مروان، والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين وَلُوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله، وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين، فحرام أيضاً؛ لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عنبة، أو عتبة، عن ابن مسعود: أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين، فكرهه، فقال له ـ يعني السائل: يقول الله تعالى: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحداً فعل ذلك، لجعلته نكالاً. قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال: وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك. قال ابن عبد البر النمريرحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه: أن خلف بن مطرف حدثهم: حدثنا أيوب بن سليمان، وسعيد بن سليمان، ومحمد بن عمر بن لبابة، قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي، حدثني عمي إياس بن عامر، قال: سألت علي بن أبي طالب، فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني، اتخذت إحداهما سرية، فولدت لي أولاداً، ثم رغبت في الأخرى، فما أصنع؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطأ، ثم تطأ الأخرى، قلت: فإن ناساً يقولون: بل تزوجها، ثم تطأ الأخرى، فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها، أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد، أو قال: إلا الأربع، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب، ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة رجل، لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره، لما خابت رحلته. قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال لي علي بن أبي طالب: حرمتهما آية، وأحلتهما آية يعني: الأختين، قال ابن عباس: يحرمهن عليّ قرابتي منهن، ولا يحرمهن عليّ قرابة بعضهن من بعض، يعني: الإماء، وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يعني: في النكاح، ثم قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن سلمة عن هشام، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود، قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر، إلا العدد. وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف، منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق، ولا ما وراءهما من المشرق، ولا بالشام ولا المغرب، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ } إلى آخر الآية، أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } أي: وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات، وهن المزوجات { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ }، يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي؛ فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن؛ فإن الآية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، هو الثوري، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } فاستحللنا بها فروجهن، وهكذا رواه الترمذي عن أحمد ابن منيع عن هشيم، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، ثلاثتهم عن عثمان البتي، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوار عن عثمان البتي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيد الخدري، فذكره، وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري به. وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري، قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهن أزواج من أهل الشرك، فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن، قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، زاد مسلم: وشعبة، ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة، والله أعلم.

وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيد، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها؛ أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود، قال: بيعها طلاقها، وهو منقطع، ورواه سفيان الثوري عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن مسعود، قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج، فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة، قال: إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس، قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن علية عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } قال: هُنَّ ذوات الأزواج، حرم الله نكاحهن، إلا ما ملكت يمينك، فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك، وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } قال: إذا كان لها زوج، فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن: بيع الأمة طلاقها، وبيعه طلاقها، فهذا قول هؤلاء من السلف، وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة، وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجَّزت عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها؛ كما قال هؤلاء، ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم فلما خيرها، دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، والله أعلم. وقد قيل: المراد بقوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } يعني: العفائف، حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي، واحدة أو اثنتين، أو ثلاثاً أو أربعاً، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } ما عدا الأربع حرام عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم.

وقوله تعالى: { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي: هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم يعني الأربع، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله: { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } يعني: الأربع. وقال إبراهيم: { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } يعني: ما حرم عليكم. وقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي: ما عدا من ذكرن من المحارم، هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ما دون الأربع، وهذا بعيد، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني: ما ملكت أيمانكم، وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. وقوله تعالى: { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } أي: تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ }. وقوله تعالى: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي: كما تستمتعون بهن، فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كما قال تعالى: { { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [النساء: 21] وكقوله تعالى: { { وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً } [االنساء: 4]، وكقوله: { { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [البقرة: 229] وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح، ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة، ثم نسخ، ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة"، وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال: نهى رسول الله عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية، يوم خيبر. ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني، عن أبيه، أنه غزا مع رسول الله يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وفي رواية لمسلم: في حجة الوداع، وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام. وقوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى، قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به، وزيادة للجعل، قال السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما، فقال: أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا. فإن زاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ }، قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرىء ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه، ومن قال بهذا القول الأول، جعل معناه كقوله: { وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً } الآية، أي: إذا فرضت لها صداقاً، فأبرأتك منه، أو عن شيء منه، فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني: إن وضعت لك منه شيئاً، فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها، يعني: في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.