التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

تفسير القرآن العظيم

قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شيء، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قال: فهمّ القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف" ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال أبو داود: حدثنا مسدَّد، حدثنا يحيى عن عبيد الله، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" وأخرجاه من حديث يحيى القطان. وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان" ، أخرجاه، وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" ، رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف، رواه مسلم. وعن أم الحصين: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا" رواه مسلم، وفي لفظ له: "عبداً حبشياً مجدوعاً" وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البرّ ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم" . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون" قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: "أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" ، أخرجاه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئاً فكرهه، فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية" ، أخرجاه. وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر" ، قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: { { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله. والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريباً منهم، عرّسوا، وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل، فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غداً، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفع فأقم، فأقام، فلما أصبحوا، أغار خالد، فلم يجد أحداً غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فبلغ عماراً الخبر، فأتى خالداً فقال: خل عن الرجل؛ فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني، فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد لا تسب عماراً؛ فإنه من يسب عماراً، يسبه الله، ومن يبغضه، يبغضه الله، ومن يلعن عماراً، يلعنه الله" فغضب عمار، فقام فتبعه خالد، فأخذ بثوبه، فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله عز وجل قوله: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً، ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس، فذكره بنحوه، والله أعلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } يعني: أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية { وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } يعني: العلماء. والظاهر، والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى: { { لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ } [المائدة: 63] وقال تعالى: { { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري، فقد أطاعني، ومن عصى أميري، فقد عصاني" ، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } أي: اتبعوا كتابه { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } أي: خذوا بسنته { وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } أي: فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله؛ كما تقدم في الحديث الصحيح: "إنما الطاعة في المعروف" . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة عن أبي مراية، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله" . وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة؛ كما قال تعالى: { { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ } [الشورى: 10] فما حكم به الكتاب والسنة، وشهدا له بالصحة، فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر، وقوله: { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي: وأحسن عاقبة ومآلا؛ كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.