التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ
٢٩
-غافر

تفسير القرآن العظيم

المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطياً من آل فرعون. قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام، واختاره ابن جرير، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً؛ لأن فرعون انفعل لكلامه، واستمعه، وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيلياً، لأوشك أن يعاجل بالعقوبة؛ لأنه منهم. وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون، والذي قال: { { يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص: 20] رواه ابن أبي حاتم. وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: { ذَرُونِىۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ } فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل. وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر؛ كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ ٱللَّهُ }؟ اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمْ }؟ انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي، قال: وتابعه محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة عن هشام، يعني: ابن عروة، عن أبيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سئل: ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مر صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم، فقالوا له: أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال: "أنا ذاك" فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه، وهو يصيح بأعلى صوته، وإن عينيه لتسيلان، وهو يقول: يا قوم { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها. وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة، فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقوله تعالى: { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمْ } أي: كيف تقتلون رجلاً لكونه يقول: ربي الله، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: { وَإِن يَكُ كَـٰذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَـٰدِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ } يعني: إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه، فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يكن صادقاً وقد آذيتموه، يصبكم بعض الذي يعدكم؛ فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقاً، فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه. وهكذا أخبر الله عز وجل عن موسى عليه السلام أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّىۤ ءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَٱعْتَزِلُونِ } [الدخان:17-21] وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله، ولا يمسوه بسوء، ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته، قال الله عز وجل: { { قُل لاَّ أَسْـأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] أي: أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة، فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية، وكان فتحاً مبيناً، وقوله جل وعلا: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذباً كما تزعمون، لكان أمره بيناً يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديداً، ومنهجه مستقيماً، ولو كان من المسرفين الكذابين، لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله، ثم قال المؤمن محذراً قومه زوال نعمة الله عنهم، وحلول نقمة الله بهم: { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَـٰهِرِينَ فِى ٱلأَرْضِ } أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك، والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئاً من بأس الله إن أرادنا بسوء. { قَالَ فِرْعَوْنُ } لقومه راداً على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } أي: ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي. وقد كذب فرعون؛ فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة { { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [الإسراء: 102] وقال الله تعالى: { { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النحل: 14] فقوله: { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } كذب فيه وافترى، وخان الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورعيته، فغشهم وما نصحهم، وكذا قوله: { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، وقد كذب أيضاً في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه؛ قال الله تبارك وتعالى: { { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود: 97] وقال جلت عظمته: { { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ } [طه: 79] وفي الحديث: "ما من إمام يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته، إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.