التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
١٩
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
٢٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢١
تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٢٢
-الشورى

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه؛ في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحداً منهم، سواء في رزقه البر والفاجر؛ كقوله عز وجل: { { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } [هود: 6] ولها نظائر كثيرة، وقوله جل وعلا: { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } أي: يوسع على من يشاء، { وَهُوَ ٱلْقَوِىُّ ٱلْعَزِيزُ } أي: لا يعجزه شيء، ثم قال عز وجل: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلأَخِرَةِ } أي: عمل الآخرة، { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى ما يشاء الله، { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هم ألبتة بالكلية، حرمه الله الآخرة والدنيا، إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل لا هذه ولا هذه، وفاز الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، والدليل على هذا أن هذه الآية ههنا مقيدة بالآية التي في سبحان، وهي قوله تبارك وتعالى: { { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ٱلأَخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 18 ــــ 21].

وقال الثوري: عن مغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب" وقوله جل وعلا: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس؛ من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة. وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار" لأنه أول من سيب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه، ولهذا قال تعالى: { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي: لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: شديد موجع في جهنم وبئس المصير.

ثم قال تعالى: { تَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أي: في عرصات القيامة، { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي: الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَـٰتِ ٱلْجَنَّـٰتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } فأين هذا من هذا؟ أي: أين من هو في العرصات في الذل والهوان، والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ قال الحسن بن عرفة: حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة قال: إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة، فتقول: ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أتراباً. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به، ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أي: الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.