التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ
٢٦
إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
٢٧
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢٨
بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ
٢٩
وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
٣٠
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
٣١
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٣٢
وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
٣٣
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
٣٤
وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
٣٥
-الزخرف

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: { إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ } أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، أي: جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي: إليها.

قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ } يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جل وعلا: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ } يعني: المشركين، { وَءَابَآءَهُمْ } أي: فتطاول عليهم العمر في ضلالهم { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي: بين الرسالة والنذارة، { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـٰفِرُونَ } أي: كابروه وعاندوه، ودفعوا بالصدور والراح؛ كفراً وحسداً وبغياً{ وَقَالُواْ } أي: كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي: هلاّ كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون: مكة والطائف، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد، وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي. وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي: يعنون: الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد: يعنون: عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي. وعنه أيضاً أنهم يعنون: عتبة بن ربيعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جباراً من جبابرة قريش، وعنه رضي الله عنهما: أنهم يعنون الوليد بن المغيرة، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وعن مجاهد: يعنون: عتبة بن ربيعة بمكة، وابن عبد ياليل بالطائف. وقال السدي: عنوا بذلك الوليد بن المغيرة، وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. قال الله تبارك وتعالى راداً عليهم في هذا الاعتراض: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أي: ليس الأمر مردوداً إليهم، بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً، وأشرفهم بيتاً، وأطهرهم أصلاً.

ثم قال عز وجل مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } الآية. وقوله جلت عظمته: { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } قيل: معناه: ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال؛ لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، قاله السدي وغيره. وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضاً، وهو راجع إلى الأول. ثم قال عز وجل: { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي: رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثم قال سبحانه وتعالى: { وَلَوْلآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر؛ لأجل المال. هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم، { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي: سلالم ودرجاً من فضة. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي: يصعدون. { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً }، أي: أغلاقاً على أبوابهم { وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } أي: جميع ذلك يكون فضة، { وَزُخْرُفاً } أي: وذهباً، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.

ثم قال تبارك وتعالى: { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب؛ ليوافوا الآخرة، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها؛ كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء" أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة، ما أعطى كافراً منها شيئاً" ثم قال سبحانه وتعالى: { وَٱلأَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي: هي لهم خاصة، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم، ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة، لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، وقال: "أو في شكَ أنت يابن الخطاب؟" ثم قال صلى الله عليه وسلم "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟" . وفي الصحيحين أيضاً وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة" وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا؛ لحقارتها كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً" قال الترمذي: حسن صحيح.