يقول تعالى: { حـمۤ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ، لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ } أي: نزلناه { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي: بلغة العرب فصيحاً واضحاً { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي: تفهمونه وتتدبرونه؛ كما قال عز وجل:
{ { بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 195]. وقوله تعالى: { وَإِنَّهُ فِىۤ أُمِّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } بين شرفه في الملأ الأعلى؛ ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: { وَإِنَّهُ } أي: القرآن { فِىۤ أُمِّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد { لَدَيْنَا } أي: عندنا، قاله قتادة وغيره { لَعَلِىٌّ } أي: ذو مكانة وشرف وفضل، قاله قتادة { حَكِيمٌ } أي: محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله؛ كما قال تبارك وتعالى: { { إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَـٰبٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الواقعة: 77 ــــ 80] وقال تعالى: { { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 11 ــــ 16] ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لايمس المصحف؛ كما ورد به الحديث إِن صح؛ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى؛ لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم؛ لقوله تعالى: { وَإِنَّهُ فِىۤ أُمِّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ }. وقوله عز وجل: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها: أتحسبون أن نصفح عنكم، فلا نعذبكم، ولم تفعلوا ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو الصالح ومجاهد والسدي، واختاره ابن جرير، وقال قتادة في قوله تعالى: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة، لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته، فكرره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك. وقول قتادة لطيف المعنى جداً، وحاصله أنه يقول في معناه: إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وهو القرآن، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال جل وعلا مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، وآمراً له بالصبر عليهم: { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى ٱلأَوَّلِينَ } أي: في شيع الأولين { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي: يكذبونه ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى: { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد؛ كقوله عز وجل:
{ { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [غافر: 82] والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جل جلاله: { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } قال مجاهد: سنتهم. وقال قتادة: عقوبتهم. وقال غيرهما: عبرتهم، أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم؛ كقوله تعالى في آخر هذه السورة: { { فَجَعَلْنَـٰهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلأَخِرِينَ } [الزخرف: 56] وكقوله جلت عظمته: { { سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } [غافر: 85] وقال عز وجل: { { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62].