التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٦
-الجاثية

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } قال الله تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي: يتوهمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره" وفي رواية: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله تعالى هو الدهر" وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فقال الله تعالى في كتابه: { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار" وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول: وادهراه وأنا الدهر" قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر" كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم، وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث.

وقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي: إذا استدل عليهم، وبين لهم الحق، وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلآ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِـآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً. قال الله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أي: كما تشاهدون ذلك، يخرجكم من العدم إلى الوجود { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28] أي: الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى { { وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27]. { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي: إنما يجمعكم إلى يوم القيامة، لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا:{ ٱئْتُواْ بِـآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } { { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } [التغابن: 9] { { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } [المرسلات: 12 ــــ 13] { { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَلٍ مَّعْدُودٍ } [هود: 104] وقال ههنا: { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك فيه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد. قال الله تعالى: { { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج: 6 ــــ 7] أي: يرون وقوعه بعيداً، والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً.