التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
-الأحقاف

تفسير القرآن العظيم

لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له، وإِخلاص العبادة والاستقامة إِليه، عطف بالوصية بالوالدين؛ كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن؛ كقوله عز وجل: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء: 23] وقوله جل جلاله: { { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14] إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال عز وجل ههنا: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً } أي أمرناه بالإحسان إِليهما والحنو عليهما. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً } الآية. ورواه مسلم وأهل السنن إِلا ابن ماجه من حديث شعبة بإِسناده نحوه، وأطول منه { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } أي قاست بسببه في حمله مشقة وتعباً من وحام وغثيان وثقل وكرب، إِلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته { وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }.

وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وقوله تبارك وتعالى: { وَٱلْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي وصحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال محمد بن إِسحاق بن يسار عن يزيد بن عبدَالله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: وما يبكيك؟ فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى في ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه، أمر برجمها، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماماً لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله عز وجل يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقال: { { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان رضي الله عنه والله: ما فطنت بهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها، قال: فقال بعجة: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة، بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه. قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فمازالت تأكله حتى مات، رواه ابن أبي حاتم، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عز وجل: { { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ } [الزخرف: 81].

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر، كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهراً، وإذا وضعته لسبعة أشهر، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعته لستة أشهر، فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي قوي وشب وارتجل. { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه ابن الأربعين، قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: إذا بلغت الأربعين، فخذ حذرك.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو عبد الله القواريري، حدثنا عروة بن قيس الأزدي، وكان قد بلغ مئة سنة، حدثنا أبو الحسن السلولي عمر بن أوس قال: قال محمد بن عمرو ابن عثمان عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة، خفف الله تعالى حسابه، وإذا بلغ الستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه الله تعالى في أهل بيته، وكتب في السماء أسير الله في أرضه" وقد روي هذا من غير هذا الوجه، وهو في مسند الإمام أحمد، وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق: تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياءً من الله عز وجل، وما أحسن قول الشاعر:

صَبا ما صَبا حتى عَلا الشَّيْبُ رأسَهُفَلَمّا عَلاهُ قالَ للباطل: ابْعدِ!

{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } أي ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ } أي في المستقبل { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أي نسلي وعقبي { إِنَّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، ويعزم عليها، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا" . قال الله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ فِيۤ أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله تعالى، المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن سيئاتهم، فنغفر لهم الكثير من الزلل، ونتقبل منهم اليسير من العمل.

{ فِيۤ أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } أي هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله؛ كما وعد الله عز وجل من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى: { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف، عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال: "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته، فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة" قال: فدخلت على يزداد، فحدث بمثل هذا، قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ فِيۤ أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله، وزاد: عن الروح الأمين. قال: قال الرب جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره، وهو حديث غريب وإسناده جيد لا بأس به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن معبد، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن سعد، عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة، فقال له يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه، فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير، ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم، فسألوه، فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ فِيۤ أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ } قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قالها ثلاثاً. قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه؟ قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه.