التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
١٧
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ
١٨
فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
-محمد

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئاً، فإذا خرجوا من عنده { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من الصحابة رضي الله عنهم: { مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } أي الساعة، لا يعقلون ما قال، ولا يكترثون له. قال الله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح. ثم قال عز وجل: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } أي والذين قصدوا الهداية، وفقهم الله تعالى لها، فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها، { وَءَاتَـٰهُمْ تَقُوَاهُمْ } أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي وهم غافلون عنها { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي أمارات اقترابها كقوله تبارك وتعالى: { { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } [النجم: 56 ــــ 57] وكقوله جلت عظمته: { { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [الانشقاق: 1] وقوله سبحانه وتعالى: { { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1] وقوله جل وعلا: { { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 1] فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين وأقام به الحجة على العالمين.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله، كما هو مبسوط في موضعه. وقال الحسن البصري: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وهو كما قال ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي.

وقال البخاري: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا؛ بالوسطى والتي تليها: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ثم قال تعالى: { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة، حيث لا ينفعهم ذلك؟ كقوله تعالى: { { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [الفجر: 23]. { { وَقَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } [سبأ: 52]. وقوله عز وجل: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلا ٱللَّهُ } هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله، ولا يتأتى كونه آمراً بعلم ذلك، ولهذا عطف عليه قوله عز وجل: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي" . وفي الصحيح: أنه كان يقول في آخر الصلاة: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت" وفي الصحيح أنه قال: "ياأَيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال: سمعت عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلت من طعامه، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "ولك" فقلت: أستغفر لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ولكم" وقرأ: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } ثم نظرت إلى نُغض كتفه الأيمن ــــ أو كتفه الأيسر شعبة الذي شك ــــ فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن عاصم الأحول به، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى: حدثنا محمد بن عون، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة عن أبي رجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما فإن إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون" وفي الأثر المروي: "قال إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جداً. وقوله تبارك وتعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي يعلم تصرفكم في نهاركم، ومستقركم في ليلكم؛ كقوله تبارك وتعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 60] وقوله سبحانه وتعالى: { { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } [هود: 6] وهذا القول ذهب إليه ابن جريج وهو اختيار ابن جرير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وقال السدي: متقلبكم في الدنيا ومثواكم في قبوركم، والأول أولى وأظهر، والله أعلم.