التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٢
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣
وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالقيام بالحق، والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه، أعقبهم ذلك لعناً منه لهم، وطرداً عن بابه وجنابه، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع، والعمل الصالح، فقال تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً } يعني: عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء، من كل سبط نقيب، قال محمد ابن إسحاق: فكان من سبط روبيل شامون بن زكّور، ومن سبط شمعون شافاط بن حري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا، ومن سبط أبين ميخائيل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفرايم يوشع بن نون، ومن سبط بنيامين فلطمي بن رفون، ومن سبط زبولون جدي بن سودي، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف جدي بن سوسى، ومن سبط دان حملائيل بن جمل، ومن سبط أسير ساطور بن ملكيل، ومن سبط نفثالي نحي بن وفسي، ومن سبط جادجو لايل بن ميكي.

وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم، قال فيها: فعلى بني روبيل الصوني بن سادون، وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي، وعلى بني يهوذا يحشون بن عمبيا ذاب، وعلى بني يساخر شال بن صاعون، وعلى بني زبولون الياب بن حالوب، وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهود، وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون، وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون، وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي، وعلى بني أسير نحايل بن عجران، وعلى بني حاز السيف بن دعواييل، وعلى بني نفتالي أجزع بن عمينان.

وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة، كان فيهم اثنا عشر نقيباً: ثلاثة من الأوس: وهم أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، ويقال بدله: أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمر بن خنيس، رضي الله عنهم، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاقرحمه الله ، والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.

قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي، عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اثنا عشر؛ كعدة نقباء بني إسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي، فسألت، أي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل وقد وجد منهم أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض؛ لجهلهم وقلة عقلهم.

وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام، وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً؛ لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ } أي: بحفظي وكلاءتي ونصري { لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ وَءَاتَيْتُمْ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى } أي: صدّقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي، { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق، { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته، { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ } أي: ذنوبكم، أمحوها وأسترها، ولا أؤاخذكم بها، { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي: أدفع عنكم المحذور، وأحصل لكم المقصود.

وقوله: { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده، وجحده، وعامله معاملة من لا يعرفه، فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضلال. ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ } أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم، أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم عن الهدى، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي: فلا يتعظون بموعظة؛ لغلظها وقساوتها، { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } أي: فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه مالم يقل، عياذاً بالله من ذلك، { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرا دينهم، ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها. وقال غيره: تركوا العمل، فصاروا إلى حالة رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة، { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } يعني: مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } وهذا هو عين النصر والظفر؛ كما قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } يعني به: الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } منسوخة بقوله: { { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [التوبة: 29] الآية.

وقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَهُمْ } أي: ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح بن مريم عليه السلام، وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته، ومؤازرته، واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى: { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم قال تعالى: { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً؛ من جعلهم له صاحبة وولداً، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.