التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٤٨
وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ
٤٩
أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٥٠
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها، وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل، ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ } أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا } { { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً، أي: لكائناً لا محالة، ولا بد.

قوله تعالى: { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: أي: مؤتمناً عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن: الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك، وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل. وعن الوالبي عن ابن عباس: { وَمُهَيْمِناً } أي: شهيداً، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس: { وَمُهَيْمِناً } أي: حاكماً على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمهاأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ماليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ } [الحجر: 9] فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد، أنهم قالوا في قوله: { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضاً نظر، وبالجملة فالصحيح الأول. وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له، قال: ولو كان الأمر كما قال مجاهد، لقال: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب)، مهيمناً عليه، يعني: من غير عطف.

وقوله تعالى: { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي: فاحكم يا محمد بين الناس؛ عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً } قال: سبيلاً. وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: { وَمِنْهَـٰجاً } قال: وسنة، كذا روى العوفي عن ابن عباس: { شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } سبيلاً وسنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي، أنهم قالوا في قوله: { شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } أي: سبيلاً وسنة، وعن ابن عباس ومجاهد أيضاً، وعطاء الخراساني، عكسه { شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } أي: سنة وسبيلاً، والأول أنسب، فإن الشرعة، وهي الشريعة أيضاً، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع في كذا، أي: ابتدأ فيه، كذا الشريعة، وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما المنهاج، فهو الطريق الواضح السهل، والسنن: الطرائق.

فتفسير قوله: { شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم. ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" يعني بذلك: التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] وقال تعالى: { { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ } [النحل: 26] الآية، وأما الشرائع، فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفاً، فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه: لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجاً، أي: هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أي: جعلناه، يعني: القرآن، شرعة ومنهاجاً، أي: سبيلاً إلى المقاصد الصحيحة، وسنة، أي: طريقاً ومسلكاً واضحاً بيناً، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهدرحمه الله ، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً } فلو كان هذا خطاباً لهذه الأمة، لما صح أن يقول: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً } وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء، لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـٰكُم } أي: إنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته؛ بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير: { فِى مَآ ءَاتَـٰكُم } يعني: من الكتاب.

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ } وهي طاعة الله، واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى: { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ } أي: معادكم أيها الناس، ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين، المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة. وقال الضحاك: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ } يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر. وقوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه، ثم قال: { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي: واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، { فإِن تَوَلَّوْاْ } أي: عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله، { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي: فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله، وحكمته فيهم؛ أن يصرفهم عن الهدى؛ لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ } أي: إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق، ناكبون عنه، كما قال تعالى: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]. وقال تعالى: { { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [الأنعام: 166] الآية.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد؛ لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود، وأشرافهم، وساداتهم، وإنا إن اتبعناك، اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيهم: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله: { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به؛ من الضلالات والجهالات؛ مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: { أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكمُ الجاهلية. وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ: { أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } الآية، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله عز وجل، من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرىء بغير حق؛ ليريق دمه" . وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة.