التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

قال الوالبي عن ابن عباس قوله: { لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ } قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه. وقال مجاهد: { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني: صغار الصيد وفراخه، { وَرِمَـٰحُكُمْ } يعني: كباره. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } يعني: أنه تعالى يبتليهم بالصيد، يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً؛ لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك:12] وقوله ههنا { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ } قال السدي وغيره: يعني: بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم، { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: لمخالفته أمر الله وشرعه.

ثم قال تعالى: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى: المأكول، وما يتولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" . وقال مالك: عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" أخرجاه، ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله. قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يختلف في قتلها. ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد؛ لأنها أشد ضرراً منه، فالله أعلم.

وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها، واستأنس من قال بهذا بما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دعا على عتبة بن أبي لهب، قال: "اللهم سلط عليه كلبك بالشام" فأكله السبع بالزرقاء، قالوا: فإن قتل ما عداهن، فداه؛ كالضبع والثعلب وهرّ البر، ونحو ذلك، قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال الشافعي: يجوز للمحرم قتل كل مالا يؤكل لحمه، ولا فرق بين صغاره وكباره، وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب، لأنه كلب بري، فإن قتل غيرهما، فداه، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما، فيقتله، فلا فداء عليه. وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي. وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك، وإن صال عليه.

وقال بعض الناس: المراد بالغراب ههنا الأبقع، وهو الذي في بطنه وظهره بياض، دون الأدرع، وهو الأسود، والأعصم، وهو الأبيض؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور" والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه. وقال مالكرحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب، إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله، بل يرميه، ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم: حدثنا يزيد بن أبي زياد: عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عما يقتل المحرم؟ فقال: "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي" رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم، وابن ماجه عن أبي كريم، وعن محمد بن فضيل، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وقوله تعالى: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن علية عن أيوب قال: نبئت عن طاوس أنه قال: لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمداً، وهذا مذهب غريب عن طاوس، وهو متمسك بظاهر الآية، وقال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه، فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه، ورواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح، وليث بن أبي سليم، وغيرهما عنه، وهو قول غريب أيضاً، والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد، وعلى تأثيمه بقوله: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطىء غير ملوم.

وقوله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ }، وحكى ابن جرير، أن ابن مسعود قرأها: { فجزاؤه - مثل ما قتل من النعم }. وفي قوله: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور؛ من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافاً لأبي حنيفةرحمه الله ؛ حيث أوجب القيمة، سواء كان الصيد المقتول مثلياً، أو غير مثلي، قال: وهو مخير، إن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هدياً، والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز، وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام، وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً، فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة، رواه البيهقي.

وقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } يعني: أنه يحكم بالجزاء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين؟ على قولين: (أحدهما): لا؛ لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالك. (والثاني): نعم؛ لعموم الآية، وهو مذهب الشافعي وأحمد، واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوماً عليه في صورة واحدة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا جعفر، هو ابن برقان، عن ميمون بن مهران: أن أعرابياً أتى أبا بكر، فقال: قتلت صيداً وأنا محرم، فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب، وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فشاورت صاحبي، حتى إذا اتفقنا على أمر، أمرناك به، وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل ههنا، فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً، وإنما دواء الجهل التعليم، فأما إذا كان المعترض منسوباً إلى العلم، فقد قال ابن جرير: حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي،قالا: حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً، فكنا إذا صلينا الغداة، اقتدنا رواحلنا، فنتماشى نتحدث. قال: فبينما نحن ذات غداة، إذ سنح لنا ظبي أو برح، فرماه رجل كان معنا بحجر، فما أخطأ خُشَّاءَهُ، فركب رَدْعَه ميتاً. قال: فَعَظَّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة، خرجت معه، حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقص عليه القصة، فقال: وإذا إلى جنبه رجل، كأن وجهه قلب فضة، يعني: عبد الرحمن بن عوف، فالتفت عمر إلى صاحبه، فكلمه، قال: ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، واستبق إهابها، قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل عظم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها؛ فلعل ذلك، يعني: أن يجزىء عنك، قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، قال: فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم؟ قال: ثم أقبل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني، فقال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيىء، فيفسد الخلق السيىء الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.

وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة، بنحوه. ورواها أيضاً عن حصين، عن الشعبي، عن قبيصة، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة عن منصور، عن أبي وائل، أخبرني ابن جرير البجلي، قال: أصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك، فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً، فحكما علي بتيس أعفر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن عيينة عن مخارق، عن طارق، قال: أوطأ أربد ظبياً، فقتلته وهو محرم، فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، ثم قال عمر: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ }، وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله، واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة، أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين، فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة، وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه، ومالم يحكم فيه الصحابة، يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم، أم لا؛ لقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ }.

وقوله تعالى: { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } أي: واصلاً إلى الكعبة، والمراد: وصوله إلى الحرم؛ بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. وقوله: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام؛ كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد، رحمهم الله، لظاهر «أو» بأنها للتخيير، والقول الآخر أنها على الترتيب، فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً، ثم يشترى به طعام، فيتصدق به، فيصرف لكل مسكين مد منه، عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين، وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة، أو مدان من غيره، فإن لم يجد، أو قلنا بالتخيير، صام عن إطعام كل مسكين يوماً؛ وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوماً؛ كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب ابن عجرة أن يقسم فرقاً بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفرق ثلاثة آصع، واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: مكانه الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك: يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.

ذكر أقوال السلف في هذا المقام

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله الله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه، ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد، نظر كم ثمنه، ثم قوم ثمنه طعاماً، قال الله تعالى: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً }، قال: إنما أريد بالطعام والصيام، أنه إذا وجد الطعام، وجد جزاؤه، ورواه ابن جرير من طريق جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً }، فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد، حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً أو نحوه، فعليه بقرة، فإن لم يجد، أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد، صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: الطعام مدّ مدّ يشبعهم، وقال جابر الجعفي، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد: { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } قالوا: إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي، رواه ابن جرير، وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على الترتيب. وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي: هي على الخيار، وهي رواية الليث عن مجاهد، عن ابن عباس، واختار ذلك ابن جريررحمه الله .

وقوله: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي: أوجبنا عليه الكفارة؛ ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } أي: في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام، واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية، ثم قال: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه، { فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }. قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف }؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }؟ قال: ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة. قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه؟ قال: لا، قال: قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل، ولكن يفتدي، رواه ابن جرير. وقيل: معناه: فينتقم الله منه بالكفارة، قاله سعيد بن جبير وعطاء، ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد، وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر، سواء الخطأ في ذلك والعمد.

وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، قال: من قتل شيئاً من الصيد خطأ، وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، فإن قتله عمداً، يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد، يقال له: ينتقم الله منك؛ كما قال الله عز وجل. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعاً عن هشام، هو ابن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيداً فحكم عليه ثم عاد، قال: لا يحكم عليه، ينتقم الله منه. وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي، رواهن ابن جرير، ثم اختار القول الأول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد بن أبي المعلى، عن الحسن البصري: أن رجلاً أصاب صيداً، فتجوز عنه، ثم عاد، فأصاب صيداً آخر، فنزلت نار من السماء فأحرقته، فهو قوله: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }. وقال ابن جرير في قوله: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ } يقول ــ عز ذكره ــ: والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله: { ذُو ٱنتِقَامٍ } يعني: أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.