التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ
٢٤
فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ
٢٥
وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ
٢٦
-النجم

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم البيوت لها مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱللَّـٰتَ } وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللات، يعنون: مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس: أنهم قرأوا: اللات، بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات، عكفوا على قبره، فعبدوه. وقال البخاري: حدثنا مسلم، هو ابن إبراهيم، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: { ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ } قال: كان اللات رجلاً يلت السويق؛ سويق الحاج. قال ابن جرير: وكذا العزى من العزيز، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، وكانت قريش يعظمونها؛ كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم"

وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالَ أقامرك، فليتصدق" فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك؛ كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بكار، وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مخلد، حدثنا يونس عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجراً!. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك ثلاثاً، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد" . وأما مناة، فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه، وقد كان بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر؛ لأنها أشهر من غيرها.

قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام. ومسجده، فكانت لقريش، ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم، حلفاء بني هاشم، قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد، فهدمها وجعل يقول:

يا عُزَّى كُفْرانَكِ لا سُبْحانَكإنِّي رأيْتُ اللّهَ قَدْ أهانَك

وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئاً" فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة، وهم حجبتها، أمعنوا في الحيل، وهم يقولون: يا عزى يا عزى فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "تلك العزى!"

قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب. قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان صخر ابن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. قال ابن إسحاق: كانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر ابن حرب، فهدمها، ويقال: علي بن أبي طالب. قال: وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة: الكعبة الشامية، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي، فهدمه، قال: وكانت فَلْس لطيء ومن يليها بجبلي طيء من سلمى وأجأ، قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب، فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرسوب والمخْذم، فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام، وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع، استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت. قال ابن إسحاق: وكانت رضاء بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:

ولَقَدْ شَدَدْتُ على رِضاءٍ شَدَّةًفتَرَكْتُها قَفْراً بِقاعٍ أَسْمَحا

قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة، وهو القائل:

ولَقَدْ سَئِمْتُ منَ الحَياة وطولِهاوعُمِرْتُ من عَدَدِ السنينَ مِئينا
مائةً حدَتْها بعدَها مِئتانِ ليوعُمِرْت من عددِ الشهور سِنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتَنايومٌ يمرُّ وليلةٌ تَحْدونا

وقال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة:

بينَ الخَوَرْنَقِ والسَّديرِ وبارقٍوالبيت ذو الكعباتِ من سندادِ

ولهذا قال تعالى: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } ثم قال تعالى: { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ }؟ أي: أتجعلون له ولداً، وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة، لكانت { قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } أي: جوراً باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً؟ ثم قال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: { إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم } أي من تلقاء أنفسكم { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ } أي: من حجة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ } أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير، والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به، ولا انقادوا له.

ثم قال تعالى: { أَمْ لِلإِنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ }؟ أي: ليس كل من تمنى خيراً حصل له { { لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } [النساء: 123] ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود شيئاً يحصل له. قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تمنى أحدكم، فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته" تفرد به أحمد. وقوله: { فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } أي: إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } كقوله: { { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255] { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟