يقول تعالى: { كَذَّبَتْ } قبل قومك يا محمد { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } أي: صرحوا له بالتكذيب، واتهموه بالجنون { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } قال مجاهد: وازدجر، أي: استطير جنوناً، وقيل: وازدجر، أي: انتهروه وزجروه، وتواعدوه لئن لم تنته يا نوح، لتكونن من المرجومين، قاله ابن زيد، وهذا متوجه حسن { فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } أي: إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم، فانتصر أنت لدينك. قال الله تعالى: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } قال السدي: وهو الكثير { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } أي: نبعت جميع أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيوناً، { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } أي: من السماء والأرض { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي: أمر مقدر.
قال ابن جريج عن ابن عباس: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر. وروى ابن أبي حاتم: أن ابن الكواء سأل علياً عن المجرة، فقال: هي شرج السماء، ومنها فتحت السماء بماء منهمر { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍ وَدُسُرٍ } قال ابن عباس وسعيد بن جبير والقرظي وقتادة وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار. ويقال: دسير؛ كما يقال: حبيك، وحباك، والجمع حبك، وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحاك: طرفاها وأصلها، وقال العوفي عن ابن عباس: هو كلكلها، أي: صدرها. وقوله: { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي: جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصاراً لنوح عليه السلام.
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ تَّرَكْنَـٰهَا ءايَةً } قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن؛ كقوله تعالى:
{ { وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [يس: 41 ــــ 42] وقال تعالى: { { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَـٰكُمْ فِى ٱلْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ } [الحاقة: 11 ــــ 12] ولهذا قال ههنا: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }؟ أي: فهل من يتذكر ويتعظ؟ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وهكذا رواه البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وروى البخاري أيضاً من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }. وقال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق: أنه سمع رجلاً سأل الأسود: فهل من مذكر، أو مدكر؟ قال: سمعت عبد الله يقرأ: فهل من مدكر، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: فهل من مدكر ــــ دالاً ــــ وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي إسحاق. وقوله تعالى: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ }؟ أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ } أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده؛ ليتذكر الناس؛ كما قال:
{ { كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ ءَايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلأَلْبَـٰبِ } [ص: 29] وقال تعالى: { { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [مريم: 97] قال مجاهد: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ } يعني: هونّا قراءته، وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن، وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل، قلت: ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا، ولله الحمد والمنة، وقوله: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن رافع، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن مطر، هو الوراق، في قوله تعالى: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }؟ هل من طالب علم، فيعان عليه؟ وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق، ورواه ابن جرير، وروي عن قتادة مثله.