التفاسير

< >
عرض

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
-الرحمن

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبداً، قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" وقال الشعبي: إذا قرأت: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }، فلا تسكت حتى تقرأ: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإِكْرَامِ } وهذه الآية كقوله تعالى: { { كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية بأنه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف؛ كقوله تعالى: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الكهف: 28] وكقوله إخباراً عن المتصدقين: { { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } [الإنسان: 9] قال ابن عباس: ذو الجلال والإكرام: ذو العظمة والكبرياء. ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل، قال: { فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }؟ وقوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } قال: من شأنه أن يجيب داعياً، أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل يوم هو يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحمصي، حدثنا جرير بن عثمان عن سويد بن جبلة، هو الفزاري، قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويقحم عقاباً.

وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السكسكي، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: "أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين" .. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن أحمد الواسطي قالا: حدثنا الوزير ابن صبيح الثقفي أبو روح الدمشقي، والسياق لهشام قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } ــــ قال ــــ من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين" . وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة عن هشام بن عمار به، ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع عن الوزير ابن صبيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مطرف عن الشعبي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، قال: والصحيح الأول، يعني: إسناده الأول.

قلت: وقد روي موقوفاً كما علقه البخاري بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء، فالله أعلم. وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم هو في شأن قال: "يغفر ذنباً، ويكشف كرباً" ثم قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاثمئة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.