التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ
٦٣
ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ
٦٤
لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
٦٥
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
٦٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٦٧
أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ
٦٨
ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ
٦٩
لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ
٧٠
أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ
٧١
أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ
٧٢
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
٧٣
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٧٤
-الواقعة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ }؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها { أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ }؟ أي: تنبتونه في الأرض { أَمْ نَحْنُ ٱلزَٰرِعُونَ } أي: بل نحن الذين نقره قراره، وننبته في الأرض. قال ابن جرير: وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي، حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقولن: زرعت، ولكن قل: حرثت" قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله تعالى: { أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَٰرِعُونَ }؟ ورواه البزار عن محمد بن عبد الرحيم عن مسلم الجرمي به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن عطاء عن أبي عبد الرحمن: لا تقولوا: زرعنا، ولكن قولوا: حرثنا. وروي عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ: { أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَٰرِعُونَ } وأمثالها، يقول: بل أنت يا رب.

وقوله تعالى: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً } أي: نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم رحمة بكم، بل ولو نشاء لجعلناه حطاماً، أي: لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } ثم فسر ذلك بقوله: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: لو جعلناه حطاماً، لظللتم تفكهون في المقالة؛ تنوعون كلامكم، فتقولون تارة إنا لمغرمون، أي: لملقون، وقال مجاهد وعكرمة: إنا لموقع بنا. وقال قتادة: معذبون، وتارة يقولون: بل نحن محرومون. وقال مجاهد أيضاً: إنا لمغرمون: ملقون للشر، أي: بل نحن محارفون، قاله قتادة، أي: لا يثبت لنا مال، ولا ينتج لنا ربح، وقال مجاهد: بل نحن محرومون، أي: مجدودون، يعني: لا حظ لنا، وقال ابن عباس ومجاهد: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }: تعجبون. وقال مجاهد أيضاً: فظلتم تفكهون: تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم، وهذا يرجع إلى الأول، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم، وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة: فظلتم تفكهون: تلاومون، وقال الحسن وقتادة والسدي: فظلتم تفكهون: تندمون، ومعناه: إما على ما أنفقتم، أو على ما أسلفتم من الذنوب، قال الكسائي: تفكه من الأضداد، تقول العرب: تفكهت بمعنى: تنعمت، وتفكهت بمعنى: حزنت.

ثم قال تعالى: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } يعني: السحاب، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد { أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } يقول: بل نحن المنزلون { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً } أي: زعافاً مراً لا يصلح لشرب ولا زرع { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } أي: فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذباً زلالاً { { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 10 ــــ 11]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة، حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا" ثم قال: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى تُورُونَ } أي: تقدحون من الزناد، وتستخرجونها من أصلها { أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } أي: بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها. وللعرب شجرتان إحداهما المرخ، والأخرى العفار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران، فحك أحدهما بالآخر، تناثر من بينهما شرر النار.

وقوله تعالى: { نَحْنُ جَعَلْنَـٰهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد وقتادة: أي: تذكر النار الكبرى، قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية. قال: "إنها قد ضربت بالماء ضربتين ــــ أو مرتين ــــ حتى يستنفع بها بنو آدم، ويدنوا منها" وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك، ما جعل الله فيها منفعة لأحد" وقال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: "إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً" رواه البخاري من حديث مالك، ومسلم من حديث أبي الزناد. ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به، وفي لفظ "والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها" وقد قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا معن بن عيسى القزار عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سواداً من ناركم هذه بسبعين ضعفاً" قال الضياء المقدسي: وقد رواه أبو مصعب عن مالك، ولم يرفعه، وهو عندي على شرط الصحيح.

وقوله تعالى: { وَمَتَـٰعاً لِّلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي: يعني بالمقوين: المسافرين، واختاره ابن جرير وقال: ومنه قولهم: أقوت الدار، إذا رحل أهلها، وقال غيره: القي والقواء: القفر الخالي البعيد من العمران. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي ههنا: الجائع، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: ومتاعاً للمقوين: للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار، وكذا روى سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قوله: للمقوين، يعني: المستمتعين من الناس أجمعين، وكذا ذكر عن عكرمة، وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها، واصطلى بها، واشتوى، واستأنس بها، وانتفع بها سائر الانتفاعات، لهذا أفرد المسافرين، وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم. وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعي الشامي عن رجل من المهاجرين من قرن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلأ والماء" وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار" وله من حديث ابن عباس مرفوعاً مثل هذا وزيادة: وثمنه حرام، ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب، وهو ضعيف، والله أعلم.

وقوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم، وزجراً لهم في المعاد.