التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٨
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

تفسير القرآن العظيم

قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس: أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين؛ كما في الآية التي في القصص، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" أخرجاه في الصحيحين. ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير. وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ } أي: ضعفين { مِّن رَّحْمَتِهِ } وزادهم: { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } يعني: هدى يتبصر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضلهم بالنور والمغفرة. رواه ابن جرير عنه.

وهذه الآية كقوله تعالى: { يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الأنفال:29] وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمر بن الخطاب حبراً من أحبار يهود: كم أفضل ما ضعفت لكم حسنة؟ قال: كفل: ثلاثمائة وخمسين حسنة، قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين، ثم ذكر سعيد قول الله، عز وجل: { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } قال سعيد: والكفلان في الجمعة مثل ذلك، رواه ابن جرير. ومما يؤيد هذا القول مارواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضب النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقل عطاءً، قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء"

قال أحمد: وحدثناه مؤمل عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحو حديث نافع، عنه. انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن سليمان بن حرب عن حماد عن نافع به، وعن قتيبة عن الليث عن نافع بمثله. وقال البخاري: حدثني محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المسلمين واليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقية يومكم، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر، قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم؛ فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا. فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا له بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" انفرد به البخاري. ولهذا قال تعالى: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي: ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله، ولا إعطاء مامنع الله { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }.

قال ابن جرير: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: ليعلم. وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها: (لكي يعلم) وكذا عطاء بن عبد الله وسعيد بن جبير. قال ابن جرير: لأن العرب تجعل (لا) صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله: { { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] { { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] بالله { { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 95].