التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩
إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٠
-المجادلة

تفسير القرآن العظيم

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد [في قوله]: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ } قال: اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك، خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت عنده؛ يطرقه من الليل أمر، وتبدو له حاجة، فلما كانت ذات ليلة، كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟" قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه. فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟" قلنا: بلى يا رسول الله قال: "الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل" هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء.

وقوله تعالى: { وَيَتَنَـٰجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } أي: يتحدثون فيما بينهم { بِٱلإِثْمِ } وهو ما يختص بهم { وَالْعُدْوَٰنِ } وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يصرون عليها، ويتواصون بها. وقوله تعالى: { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن مسروق عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة: وعليكم السام، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو ما سمعت أقول: وعليكم" ؟ فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا"

وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال؟" قالوا: سلم يا رسول الله قال: "بل قال: سام عليكم" أي: تسامون دينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ردوه" فردوه عليه، فقال نبي الله: "أقلت سام عليكم؟" قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب، فقولوا: عليك" أي: عليك ما قلت. وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه.

وقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ فِىۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي: يفعلون هذا، ويقولون ما يحرفون من الكلام، وإيهام السلام، وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبياً، لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبياً حقاً، لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى: { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي: جهنم كفايتهم في الدار الآخرة { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول؟ فنزلت هذه الآية: { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } إسناد حسن، ولم يخرجوه.

وقال العوفي عن ابن عباس: { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال الله تعالى: { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } ثم قال الله تعالى مؤدباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ٱلرَّسُولِ } أي: كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، { وَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِىۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها. قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.

ثم قال تعالى: { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: إنما النجوى، وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً، { مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } يعني: إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه؛ { لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي: ليسوءهم، وليس ذلك بضارهم شيئاً إلا بإذن الله، ومن أحسَّ من ذلك شيئاً، فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله.

وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن؛ كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا: حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يخزنه" . أخرجاه من حديث الأعمش.

وقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه" انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل، كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب، به.