التفاسير

< >
عرض

لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
٢٢
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٢٣
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٤
-الحشر

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى معظماً لأمر القرآن، ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه؛ لما فيه من الوعد الحق، والوعيد الأكيد: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدِّعاً } إلى آخرها، يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، ثم قال تعالى: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وكذا قال قتادة وابن جرير.

وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حن الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت؛ لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع. وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: { { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ } [الرعد: 31] الآية. وقد تقدم أن معنى ذلك، أي: لكان هذا القرآن، وقد قال تعالى: { { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَـٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74].

ثم قال تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } أخبر تعالى: أنه الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا، والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ من جليل وحقير، وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات. وقوله تعالى: { هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا، والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: { { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } [الأعراف: 156] وقال تعالى: { { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] وقال تعالى: { { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58] ثم قال تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ } أي: المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة. وقوله تعالى: { ٱلْقُدُّوسُ } قال وهب بن منبه: أي: الطاهر. وقال مجاهد وقتادة: أي: المبارك. وقال ابن جريج: تقدسه الملائكة الكرام. { ٱلسَّلَـٰمَ } أي: من جميع العيوب والنقائص؛ لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.

وقوله تعالى: { ٱلْمُؤْمِنُ } قال الضحاك عن ابن عباس: أي: أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمن بقوله: أنه حق. وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به. وقوله تعالى: { ٱلْمُهَيْمِنُ } قال ابن عباس وغير واحد: أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى: هو رقيب عليهم؛ كقوله { { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [البروج:9] وقوله { { ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ } [يونس: 46] وقوله: { { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33] الآية. وقوله تعالى: { ٱلعَزِيزُ } أي: الذي قد عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء، فلا ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: { ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ } أي: الذي لا تليق الجبرية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته؛ كما تقدم في الصحيح: "العظمة إزاري، والكبرياء رادئي، فمن نازعني واحداً منهما، عذبته" . وقال قتادة: الجبار: الذي جَبَر خلقه على ما يشاء. وقال ابن جرير: الجبار: المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم. وقال قتادة: المتكبر: يعني عن كل سوء. ثم قال تعالى: { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }. وقوله تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } الخلق: التقدير، والبرء: هو الفري، وهو التنفيذ، وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئاً ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر:

وَلأَنْتَ تَفري ما خَلَقْتَ وبَعْــضُ القومِ يخلُق ثُمَّ لا يَفْري

أي: أنت تنفذ ما خلقت، أي: قدرت، بخلاف غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريد، فالخلق: التقدير، والفري: التنفيذ، ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فرى، أي: قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله تعالى: { ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } أي: الذي إذا أراد شيئاً، قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار؛ كقوله تعالى: { { فِىۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 8] ولهذا قال: { ٱلْمُصَوِّرُ }، أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.

وقوله تعالى: { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } قد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الأعراف". ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مئة إلا واحداً، من أحصاها، دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له، عن أبي هريرة أيضاً، وزاد بعد قوله: "وهو وتر يحب الوتر" . واللفظ للترمذي: "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدىء، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور" . وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطاً مطولاً بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا.

وقوله تعالى: { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } كقوله تعالى: { { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44] وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي: فلا يرام جنابه { ٱلْحَكِيمُ } في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد، يعني: ابن طَهْمان، أبو العلاء الخفاف، حدثنا نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي، كان بتلك المنزلة" ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به. وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.