التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ
٣
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
-الحشر

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له، ويمجده ويقدسه، ويصلي له ويوحده؛ كقوله تعالى: { { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي: منيع الجناب { ٱلْحَكِيمُ } في قدره وشرعه. وقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني: يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها ما نعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئاً، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَـٰرِ } أي: تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله، وخالف رسوله، وكذب كتابه؛ كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم؟

قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود وسفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبيّ ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه، أو لنخرجنكم، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونسبي نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من عبدة الأوثان، أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" ؟ فلما سمعوا ذلك من النبي، تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهو الخلاخل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك.

فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب، فحصرهم فقال لهم: "إنكم والله لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه" ، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه، فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها، وخصه بها، فقال تعالى: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يقول: بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجة، ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة. ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار، وبالله المستعان.

وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير: أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة، قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين لأدينهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ــــ ورسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ــــ فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة.

فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة ــــ سماك بن خرشة ــــ ذكرا فقراً، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما، فأحرزاها.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم ترَ ما لقيت من ابن عمك، وما هَمَّ به من شأني؟" فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها. وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم. فقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني: بني النضير { مِن دِيَـٰرِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ }. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر ههنا، يعني: الشام، فليقرأ هذه الآية: { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا" قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر" . وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن عوف عن الحسن قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، قال: "هذا أول الحشر وأنا على الأثر" . ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن، به.

وقوله تعالى: { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي: في مدة حصاركم لهم وقصرها، وكانت ستة أيام، مع شدة حصونهم ومنعتها، ولهذا قال تعالى: { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي: جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: { { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [النحل: 26].

وقوله تعالى: { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } أي: الخوف والهلع والجزع. وكيف لا يحصل لهم ذلك، وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر؟ صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتحملها على الإبل، وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد. وقال مقاتل بن حيان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم، فإذا ظهر على درب أو دار، هدم حيطانها؛ ليتسع المكان للقتال، وكان اليهود إذا علوا مكاناً، أو غلبوا على درب أو دار، نقبوا من أدبارها، ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى: { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَـٰرِ }. وقوله: { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا } أي: لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء، وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك، قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا، مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم بناحية من المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة، إلا الحلقة، وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام، قال: والجلاء كتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ } ــــ إلى قوله ــــ { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } وقال عكرمة: الجلاء: القتل، وفي رواية عنه: الفناء. وقال قتادة: الجلاء: خروج الناس من البلد إلى البلد. وقال الضحاك: أجلاهم إلى الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء، فهذا الجلاء.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن سعيد العوفي، حدثني أبي عن عمي، حدثنا أبي عن جدي عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء، والجلاء: إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى. وروي أيضاً من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جده، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.

وقوله تعالى: { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } أي: حتم لازم، لا بد لهم منه. وقوله تعالى: { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: إنما فعل الله بهم ذلك، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. ثم قال: { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }. وقوله تعالى: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } اللين: نوع من التمر، وهو جيد. قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر، وقال كثيرون من المفسرين: اللينة: ألوان التمر سوى العجوة. قال ابن جرير: هو جميع النخل. ونقله عن مجاهد، وهو البويرة أيضاً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم، أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهاباً وإرعاباً لقلوبهم، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة، أي: ما قطعتم من لينة، وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم.

وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعاً، فقال النسائي: أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال: يستنزلونهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضاً، وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ }. وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر، وعن أبي الزبير عن جابر، قال: رخص لهم في قطع النخل، ثم شدد عليهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا، أو علينا وزر فيما تركنا؟ فأنزل الله عز وجل: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير، وحَرّق. وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه، ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم حتى حارب قريظة، فقتل من رجالهم، وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود بالمدينة. ولهما أيضاً عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع - وهي البُوَيرة - فأنزل الله، عز وجل فيه: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }.

وللبخاري،رحمه الله ، من رواية جُويرية بن أسماء عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وهانَ على سَراةِ بَني لُؤَيَحَريقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطيرُ

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:

أدامَ اللّهُ ذلك مِنْ صَنيعوحرَّقَ في نواحيها السَّعيرُ
ستعلمُ أيُّنا منْها بنزهٍوتعلم أيّ أرضينا نَضيرُ

وكذا رواه البخاري، ولم يذكره ابن إسحاق. وقال محمد بن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:

لقد خَزِيَتْ بغدرتِها الحبورُكذاك الدهرُ ذو صَرْفٍ يدورُ
وذلك أنهم كفروا بربَعظيمٍ أمرُه أمرٌ كبيرُ
وقد أوتوا معاً فَهْماً وعلماًوجاءهُمُو من الله النذيرُ
نذيرٌ صادقٌ أدى كِتاباًوآياتٍ مبينةً تُنيرُ
فقالوا ما أتَيْتَ بأمرِ صدقٍوأنت بمنكَر منا جَديرُ
فقال بَلى لقد أديت حَقّاًيُصَدِّقُني بهِ الفَهِمُ الخبيرُ
فمنْ يتبعْهُ يُهْدَ لكل رشدٍومن يكفرْ به يجزَ الكَفورُ
فلما أُشرِبوا غدراً وكُفراًوجَدَّ بهم عن الحقِّ النُّفورُ
أرى اللّهُ النبيَّ برأيِ صِدْقٍوكان اللّهُ يحكمُ لا يجورُ
فأيَّدَهُ وسَلَّطَهُ عليهموكانَ نصيرَهُ نعمَ النصيرُ
فغودر منهمو كعبٌ صريعاًفذلَّتْ بعد مصرعِه النضيرُ
على الكفَّيْن ثمَّ وقد علتْهبأيدينا مُشَهَّرةٌ ذُكور
بأمرِ محمدٍ إذ دسَّ ليلاًإلى كعب أخا كعبٍ يسيرُ
فما كره فأنزله بمكرٍومحمودٌ أخو ثقة جَسورُ
فتلك بنو النضير بدار سَوْءٍأبادهمو بما اجترموا المُبيرُ
غداة أتاهُمو في الزحف رَهْواًرسولُ الله وهْوَ بهم بصيرُ
وغسَّانُ الحماةُ موازروهعلى الأعداء وهو لهم وزير
فقال السلمُ ويحكمو فَصَدُّواوخالف أمرَهُم كذبٌ وزورُ
فذاقوا غِبَّ أمرهمو وَبالاًلكلِّ ثلاثةٍ منهم بعيرُ
وأُجْلوا عامدينَ لقَيْنُقاعٍوغودر منهمو نَخْلٌ ودورُ

قال: وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قول ابن لُقيم العبسي، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف، قال ابن هشام الأشجعي:

أَهْلي فداءٌ لامرىءٍ غير هالكٍأجلى اليهودَ بالحسيِّ المزنّمِ
يَقيلون في جَمْرِ العضاه وبُدِّلُواأهيضِبَ عوداً بالوَدِيِّ المُكَمَّمِ
فإنْ يكُ ظنِّي صادقاً بمحمَّدٍيَرَوا خيلَه بينَ الصّلا ويَرَمْرَمِ
يؤمُّ بها عَمْرَو بنَ بهثة إنهمعدوٌّ وما حَيٌّ صديقٌ كمُجْرِمِ
عليهِنَّ أبطالٌ مساعيرُ في الوغىيَهُزُّون أطرافَ الوشيجِ المُقَوَّمِ
وكلُّ رقيقِ الشفرتينِ مُهَنَّدٍتُورِثْنَ من أزمانِ عادٍ وُجْرُهم
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي قُرَيْشاً رسالةًفهلْ بعدَهُمْ في المجدِ منْ متكرّمِ
بأنَّ أخاكم فاعلَمُنَّ محمداًتليدُ النَّدى بين الحَجونِ وزمزمِ
فَدِينوا لهُ بالحقِّ تُحْسَمْ أمورُكموتَسْموا من الدنيا إلى كل معظمِ
نبيٌّ تلاقَتْهُ من اللّهِ رحمةٌولا تَسْألوهُ أمرَ غيْبٍ مُرَجَّمِ
فقد كان في بَدْرٍ لَعَمْرِيَ عِبْرَةٌلكمْ يا قريشٌ والقَليب المُلَمَّمِ
غداة أتى في الخزرجيَّةِ عامداًإليكم مُطيعاً للعظيم المكرَّمِ
مُعاناً بروح القدس ينكي عدوَّهُرسولاً من الرَّحمٰن حقاً بمعلم
رسولاً من الرحمن يتلو كتابَهُفلما أنار الحقّ لم يتلعثَمِ
أرى أمرَه يزدادُ في كلِّ موطنٍعُلُواً لأمرٍ حَمَّه اللّهُ مُحْكَمِ

وقد أورد ابن إسحاقرحمه الله ههنا أشعاراً كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة، تركنا باقيها اختصاراً واكتفاء بما ذكرناه، ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد، وبعد بئر معونة، وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.