التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
١٣٣
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
١٣٤
قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ
١٣٥
-الأنعام

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: { وَرَبُّكَ } يا محمد { ٱلْغَنِىُّ } أي: عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } أي: وهو مع ذلك رحيم بهم، كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 143] { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي: إذا خالفتم أمره { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ } أي: قوماً آخرين، أي: يعملون بطاعته { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأولى، وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى: { { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِئَـاخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } [النساء: 133] وقال تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر:15-17].

وقال تعالى: { { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38] وقال محمد بن إسحاق: عن يعقوب بن عتبه قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية: { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } الذرية: الأصل، والذرية: النسل، وقوله تعالى: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي: أخبرهم يا محمد: أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة، { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي: ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم تراباً رفاتاً وعظاماً، هو قادر لا يعجزه شيء، وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثني أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني آدم إن كنتم تعقلون، فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين"

وقوله تعالى: { قُلْ يَـٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي: استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي؛ كقوله: { { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [هود: 121-122] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ }: ناحيتكم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي: أتكون لي، أو لكم؟ وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه، أي: فإنه تعالى مكنه في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين، كما قال الله تعالى: { { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة: 21] وقال: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } [غافر:51-52] وقال تعالى: { { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } [الأنبياء: 105].

وقال تعالى إخباراً عن رسله: { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } { { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم:13-14] وقال تعالى: { { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } [النور: 55]، الآية. وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية، وله الحمد والمنة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.