التفاسير

< >
عرض

عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧
لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٨
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٩
-الممتحنة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } أي: محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، { وَٱللَّهُ قَدِيرٌ } أي: على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة؛ كما قال تعالى ممتناً على الأنصار: { { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [آل عمران: 103] الآية. وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟" وقال الله تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِىۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 62 ــــ 63] وفي الحديث: "أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما" . وقال الشاعر:

وقد يَجْمَعُ اللّهُ الشَّتِيْتَيْنِ بعدَمايَظُنّاّنِ كُلَّ الظَّنِّ أَلا تَلاقِيا

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: يغفر للكافرين كفرهم، إذا تابوا منه، وأنابوا إلى ربهم، وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.

وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه. وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح، وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف، وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال: قرىء على محمد بن عزيز، حدثني سلامة، حدثني عقيل، حدثني ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل، فلقي ذا الخمار مرتداً، فقاتله، فكان أول من قاتل في الردة، وجاهد عن الدين، قال ابن شهاب: وهو ممن أنزل الله فيه: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } الآية. وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس: أن أبا سفيان قال: يا رسول الله، ثلاث أعطنيهن، قال: "نعم" قال: تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: "نعم" قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: "نعم" قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ــــ الحديث ــــ وقد تقدم الكلام عليه.

وقوله تعالى: { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـٰرِكُمْ } أي: لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين؛ كالنساء والضعفة منهم { أَن تَبَرُّوهُمْ } أي: تحسنوا إليهم، { وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ } أي: تعدلوا { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك" أخرجاه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب وَقَرَظ وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها. فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ } إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.

وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث مصعب بن ثابت به، وفي رواية لأحمد ولابن جرير: قتيلة بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حسل، وزاد ابن أبي حاتم: في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثناأبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأسماء: أنهما قالتا: قدمت علينا أمنا المدينة، وهي مشركة، في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فقلنا: يا رسول الله إن أمنا قدمت علينا المدينة، وهي راغبة، أفنصلها؟ قال: "نعم فصلاها" . ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة إلا من هذا الوجه.

(قلت): وهو منكر بهذا السياق؛ لأن أم عائشة هي أم رومان، وكانت مسلمة مهاجرة، وأم أسماء غيرها؛ كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة، والله أعلم. وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات، وأورد الحديث الصحيح: "المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا"

وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَـٰتَلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـٰرِكُمْ وَظَـٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَٰجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ } أي: إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة، فقاتلوكم، وأخرجوكم، وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عز وجل عن موالاتهم، ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } كقوله تعالى: { { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [المائدة: 51].