التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
-الصف

تفسير القرآن العظيم

تقدم الكلام على قوله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } غير مرة بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ إنكار على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا، واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان" . وفي الحديث الآخر في الصحيح: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" فذكر منهن: إخلاف الوعد، وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالَ أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: تمراً. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي، كتبت عليك كذبة" . وذهب الإمام مالك،رحمه الله تعالى، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود، وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: تزوج، ولك علي كل يوم كذا، فتزوج، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك؛ لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقاً، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض، نكل عنه بعضهم؛ كقوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 77 ــــ 78].

وقال تعالى: { { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } الآية [محمد: 20]. وهكذا هذه الآية، معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ وهذا اختيار ابن جرير. وقال مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله، لعملنا به، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.

ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل: قاتلت، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، و"ضربت"، ولم يضرب، و"صبرت"، ولم يصبر. وقال قتادة، والضحاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: "قتلنا، وضربنا، وطعنا، وفعلنا،" ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر، ولا يفون لهم بذلك. وقال مالك، عن زيد بن أسلم: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }؟ قال: في الجهاد. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ــــ إلى قوله ــــ { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } فما بين ذلك، في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله، لعملنا بها حتى نموت، فأنزل الله تعالى هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيساً في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيداً.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر عن داود ابن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمئة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال: أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم، وقال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة. ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هشيم، أخبرنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال" ورواه ابن ماجه من حديث مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف، به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا الأسود، يعني: ابن شيبان، حدثني يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت: يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال: لله أبوك فقد لقيت، فهات، فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: أن الله يبغض ثلاثة، ويحب ثلاثة، قال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ فقال: رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسباً مجاهداً، فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ:{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } وذكر الحديث. هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وهذا اللفظ، واختصره، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر بأبسط من هذا السياق وأتم، وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد.

وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليط، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه الشام، وأمته الحمادون، يحمدون الله على كل حال، وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر، يوضون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة" ثم قرأ: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم لو على ظهر دابة رواه ابن أبي حاتم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال: وقوله تعالى: { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } أي: ملتصق بعضه في بعض؛ من الصف في القتال. وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض. وقال ابن عباس: { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } مثبت لا يزول، ملصق بعضه ببعض.

وقال قتادة: { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل لا يحب أن يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم، وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله؛ فإنه عصمة لمن أخذ به، أورد ذلك كله ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن يحيى بن جابر الطائي عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض؛ لقول الله عز وجل: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } قال: وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني ألتفت في الصف، فَجَثُوا في لحيي.