التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
-الصف

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام: أنه قال لقومه: { لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ }؟ أي: لم توصلون الأذى إلي، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال: "رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى؛ كما قال تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } [الأحزاب: 69] وقوله تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق، مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان؛ كما قال تعالى: { { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110] وقال تعالى: { { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء: 115] ولهذا قال تعالى في هذه الآية: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }.

وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِى إِسْرَٰءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } يعني: التوراة، قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" . ورواه مسلم من حديث الزهري، به نحوه.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، منها ما حفظنا، فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفى، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة" . ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة، به. وقد قال الله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ } [الأعراف: 157] الآية، وقال تعالى: { { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } [آل عمران: 81] قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد؛ لئن بعث محمد، وهو حي، ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته؛ لئن بعث محمد، وهم أحياء، ليتبعنه وينصرنه.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" . وهذا إسناد جيد. وروي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين" . وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام"

وقال أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى، سمعت خديجاً أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحو من ثمانين رجلاً، منهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن رواحة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي، سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: فأين هم؟ قالا: هم في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفوك في عيسى بن مريم، قال: ما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟ قال: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يَفْرضْها ولد، قال: فرفع عوداً من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك، لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه، وأمر بهدية الآخرين، فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.

وقد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة، والمقصد: أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث، وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، وكذا على لسان عيسى بن مريم، ولهذا قالوا: أخبرنا عن بدء أمرك، يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال ابن جريج وابن جرير: { فَلَمَّا جَآءَهُم } أحمد، أي: المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات، قال الكفرة والمخالفون: { هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }.