التفاسير

< >
عرض

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
٧
-الطلاق

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى آمراً عباده إذا طلق أحدهم المرأة، أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها، فقال: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } أي عندكم { مِّن وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني: سعتكم، حتى قال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك، فأسكنها فيه. وقوله تعالى: { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان: يعني: يضاجرها لتفتدي منه بمالها، أو تخرج من مسكنه، وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى: { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } قال: يطلقها، فإذا بقي يومان راجعها.

وقوله تعالى: { وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن إن كانت حاملاً، أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملاً أو حائلاً، وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل، وإن كانت رجعية، لأن الحمل تطول مدته غالباً، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة، ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة الحمل أم للحمل وحده؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره، ويتفرع عليها مسائل كثيرة مذكورة في علم الفروع.

وقوله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بِنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبأ، وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالباً إلا به، فإن أرضعت، استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليّه على ما يتفقان عليه من أجرة، ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }، وقوله تعالى: { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة؛ كما قال تعالى في سورة البقرة: { لاَ تُضَآرَّ وَٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة:233] وقوله تعالى: { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ } أي وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً، ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.

وقوله تعالى: { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا } كقوله تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] روى ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حكام عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره، فقال:رحمه الله تعالى، تأول هذه الآية { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ ٱللَّهُ }.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، أخبرني أبي، أخبرني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري، واسمه الحارث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار، وكان لآخر عشر أواقٍ، فتصدق منها بأوقية، وكان لآخر مئة أوقية، فتصدق منها بعشر أواق ــــ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــ: هم في الأجر سواء، كل قد تصدق بعشر ماله، قال الله تعالى: { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ }" هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقوله تعالى: { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } وعد منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى: { { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح: 5 ــــ 6] وقد روى الإمام أحمد حديثاً يحسن أن نذكره ههنا: فقال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو هريرة: بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره، فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته مسغبة شديدة، فقال لامرأته: عندك شيء؟ قالت: نعم، أبشر، أتانا رزق الله، فاستحثها فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شيء، قالت: نعم هنيهة، ترجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه الطول، قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به فإني قد بلغت وجهدت، فقالت: نعم، الآن نفتح التنور فلا تعجل، فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أن يقول لها، قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري، فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم، ورحييها تطحنان، فقامت إلى الرحى فنفضتها، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم، قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي القاسم بيده هو قول محمد صلى الله عليه وسلم: "لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة"

وقال في موضع آخر: حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد، وهو ابن سيرين عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة، خرج إلى البَرية، فلما رأت امرأته، قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً، قال: فرجع الزوج، فقال: أصبتم بعدي شيئاً؟ قالت امرأته: نعم من ربنا، فأمّ إلى الرحى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة" .