التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٨
-التحريم

تفسير القرآن العظيم

قال سفيان الثوري عن منصور عن رجل عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } يقول: أدّبوهم وعلّموهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } يقول: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وقال مجاهد: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } قال: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال قتادة: يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قدعتهم عنها وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه.

وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال الفقهاء: وهكذا في الصوم؛ ليكون ذلك تمريناً له على العبادة؛ لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، والله الموفق.

وقوله تعالى: { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } وقودها أي: حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم { وَٱلْحِجَارَةُ } قيل: المراد بها: الأصنام التي تعبد؛ لقوله تعالى: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي: هي حجارة من كبريت، زاد مجاهد: أنتن من الجيفة، وروى ذلك ابن أبي حاتمرحمه الله ، ثم قال: حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري، حدثنا عبد العزيز ــــ يعني ابن أبي روّاد ــــ قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } وعنده بعض أصحابه، وفيهم شيخ، فقال الشيخ: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنّم أعظم من جبال الدنيا كلها" ، قال: فوقع الشيخ مغشياً عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده، فإذا هو حي، فناداه قال: "يا شيخ قل: لا إله إلا الله" فقالها، فبشّره بالجنة. قال: فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ قال: "نعم يقول الله تعالى: { ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } " هذا حديث مرسل غريب.

وقوله تعالى: { عَلَيْهَا مَلَـٰئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله (شداد) أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج. كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثنا أبي عن عكرمة أنه قال: إذا وصل أول أهل النار إلى النار، وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول، حتى ينتهوا إلى آخرها.

وقوله: { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله، ليس بهم عجز عنه، وهؤلاء هم الزبانية ــــ عياذاً بالله منهم ــــ وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي يقال للكفرة يوم القيامة: لا تعتذروا؛ فإنه لا يقبل منكم ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم، ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.

قال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب: سمعت النعمان بن بشير يخطب، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } قال: يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه، وقال الثوري عن سماك عن النعمان عن عمر قال: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه. وقال أبو الأحوص وغيره عن سماك عن النعمان: سئل عمر عن التوبة النصوح، فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيىء ثم لا يعود إليه أبداً. وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله: { تَوْبَةً نَّصُوحاً } قال: يتوب ثم لا يعود.

وقد روي هذا مرفوعاً، فقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه" ، تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف، والموقوف أصح، والله أعلم. ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح: هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي، ردّه إليه بطريقه. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عبد الكريم، أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن معقل قال: دخلت مع أبي على عبد الله بن مسعود، فقال: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الندم توبة" ؟ قال: نعم. وقال مرة: نعم، سمعته يقول: "الندم توبة" . ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم وهو ابن مالك الجزري به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني الوليد بن بكير أبو خباب عن عبد الله بن محمد العدوي عن أبي سنان البصري عن أبي قلابة، عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة، منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.

قال زر: فقلت لأبي ابن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبداً" . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عباد بن عمرو، حدثنا أبو عمرو بن العلاء سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح: أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه إذا ذكرته، فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجبّ ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: "الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها" ، وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الأثر - ثم لا يعود فيه أبداً. أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي، بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك، لا يكون ذلك ضارّاً في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام: "التوبة تجبّ ما قبلها" ؟ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" ، فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة فالتوبة بطريق الأولى، والله أعلم.

وقوله تعالى: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } و عسى من الله موجبة { يَوْمَ لاَ يُخْزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ } أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ } كما تقدم في سورة الحديد { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفىء. وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك عن يحيى بن حسان عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فسمعته يقول: "اللهم لا تخزني يوم القيامة"

وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن مقاتل المروزي، حدثنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأوّل من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم" ، فقال رجل: يا رسول الله، وكيف تعرف أمتك من بين الأمم؟ قال: "غرٌّ محجلون من آثار الطهور، ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم" .