التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: كما أنعمنا عليك، وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم، { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال ابن عباس: لو ترخص لهم، فيرخصون. وقال مجاهد: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ }: تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق. ثم قال تعالى: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترىء بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها، قال ابن عباس: المهين: الكاذب. وقال مجاهد: هو الضعيف القلب. قال الحسن: كل حلاف مكابر مهين ضعيف.

وقوله تعالى: { هَمَّازٍ } قال ابن عباس وقتادة: يعني: الاغتياب { مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ } يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي الحالقة. وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة" الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام أن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قتات" رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن إبراهيم به، وحدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري عن منصور عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قتات" يعني: نماماً، وحدثني يحيى بن سعيد القطان، حدثنا أبو سعيد الأحول عن الأعمش، حدثني إبراهيم منذ نحو ستين سنة عن همام بن الحارث قال: مرّ رجل على حذيفة، فقيل: إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة قتات" . وقال أحمد: حدثنا هشام، حدثنا مهدي عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال: بلغ حذيفة عن رجل أنه ينمّ الحديث، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة نمام"

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن خثيم عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخياركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجلّ" ثم قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت" ورواه ابن ماجه عن سويد بن سعيد عن يحيى بن سليم عن ابن خثيم به. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت"

وقوله تعالى: { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي: يمنع ما عليه وما لديه من الخير { مُعْتَدٍ } في تناول ما أحل الله له يتجاوز فيها الحد المشروع { أَثِيمٍ } أي: يتناول المحرمات، وقوله تعالى: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل، فهو الفظّ الغليظ الصحيح الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر" وقال وكيع: "كل جواظ جعظري مستكبر" أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة، إلا أبا داود، من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن سعيد بن خالد به. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قال: سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: "كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع" تفرّد به أحمد.

قال أهل اللغة: الجعظري: الفظ الغليظ. والجواظ: الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم، فقال: "هو الشديد الخلق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، رحيب الجوف" وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري العتل الزنيم" وقد أرسله أيضاً غير واحد من التابعين. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مقضماً، فكان للناس ظلوماً ــــ قال ــــ فذلك العتل الزنيم" وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين، ونص عليه غير واحد من السلف، منهم مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم: أن العتل هو المصحح الخلق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك، وأما الزنيم، فقال البخاري: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن عباس: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة، ومعنى هذا أنه كان مشهوراً بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها، وإنما الزنيم في لغة العرب هو الدعي في القوم، قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة، وقال: ومنه قول حسان بن ثابت، يعني: يذم بعض كفار قريش:

وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آلِ هاشِمٍكما نِيطَ خلفَ الراكبِ القدَحُ الفَرْدُ

وقال آخر:

زَنيمٌ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبوهُبَغِيُّ الأُمِّ ذو حسبٍ لَئيمِ

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا أسباط عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: { زَنِيمٍ } قال: الدعي الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس:

زَنيمٌ تداعاهُ الرجالُ زيادةًكما زِيْدَ في عرضِ الأديمِ الأكارعُ

وقال العوفي عن ابن عباس: الزنيم: الدعي، ويقال: الزنيم: رجل كانت به زنمة يعرف بها، ويقال: هو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسود بن عبد يغوث الزهري، وليس به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: أنه زعم أن الزنيم: الملحق النسب، وقال ابن أبي حاتم: حدثني يونس، حدثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب: أنه سمعه يقول في هذه الآية: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال سعيد: هو الملصق بالقوم ليس منهم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج: حدثنا عقبة بن خالد عن عامر بن قدامة قال: سئل عكرمة عن الزنيم، قال: هو ولد الزنا.

وقال الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال: يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء، والزنماء من الشياه التي في عنقها هنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري عن جابر عن الحسن عن سعيد بن جبير قال: الزنيم: الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها، والزنيم: الملصق. رواه ابن جرير، وروي أيضاً من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس: أنه قال في الزنيم: نعت، فلم يعرف حتى قيل: زنيم. قال: وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها، قال: وقال آخرون: كان دعياً.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس عن أبيه عن أصحاب التفسير قالوا: هو الذي تكون له زنمة مثل زنمة الشاة، وقال الضحاك: كانت له زنمة في أصل أذنه، ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب، وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو المريب الذي يعرف بالشر، وقال مجاهد: الزنيم: الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة، وقال أبو رزين: الزنيم علامة الكفر، وقال عكرمة: الزنيم: الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها. والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالباً يكون دعياً ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره؛ كما جاء في الحديث: "لا يدخل الجنّة ولد زنا" وفي الحديث الآخر: "ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه"

وقوله تعالى: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } يقول تعالى: هذه مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل، وأعرض عنه، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين؛ كقوله تعالى: { { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لأَيَـٰتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر: 11 ــــ 30].

وقال تعالى ههنا: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } قال ابن جرير: سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه، ولا يخفى عليهم؛ كما لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم، وهكذا قال قتادة: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }: شين لا يفارقه آخر ما عليه، وفي رواية عنه: سيما على أنفه، وكذا قال السدي، وقال العوفي عن ابن عباس: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } يقاتل يوم بدر، فيخطم بالسيف في القتال.

وقال آخرون: { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار، يعني: نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كلّه أبو جعفر بن جرير، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة، وهو متجه.

وقد قال ابن أبي حاتم في سورة: { { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [النبأ: 1]: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني خالد بن سعيد عن عبد الملك بن عبد الله، عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد يكتب مؤمناً أحقاباً ثم أحقاباً، ثم يموت والله عليه ساخط، وإن العبد يكتب كافراً أحقاباً ثم أحقاباً، ثم يموت والله عليه راضٍ، ومن مات همازاً لمازاً ملقباً للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين" .